وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا تَجُوزُ) لِأَنَّ جِنَايَتَهُ بَاقِيَةٌ وَالِامْتِنَاعُ لِأَجْلِهَا.
وَلَهُمَا أَنَّ الِامْتِنَاعَ لِحَقِّ الْوَرَثَةِ لِأَنَّ نَفْعَ بُطْلَانِهَا يَعُودُ إلَيْهِمْ كَنَفْعِ بُطْلَانِ الْمِيرَاثِ، وَلِأَنَّهُمْ لَا يَرْضَوْنَهَا لِلْقَاتِلِ كَمَا لَا يَرْضَوْنَهَا لِأَحَدِهِمْ. قَالَ (وَلَا تَجُوزُ لِوَارِثِهِ) لِقَوْلِهِ ﵊ «إنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، أَلَا لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ» وَلِأَنَّهُ يَتَأَذَّى الْبَعْضُ بِإِيثَارِ الْبَعْضِ فَفِي تَجْوِيزِهِ قَطِيعَةُ الرَّحِمِ وَلِأَنَّهُ حَيْفٌ بِالْحَدِيثِ الَّذِي رَوَيْنَاهُ، وَيُعْتَبَرُ كَوْنُهُ وَارِثًا أَوْ غَيْرَ وَارِثٍ وَقْتَ الْمَوْتِ لَا وَقْتَ الْوَصِيَّةِ لِأَنَّهُ تَمْلِيكٌ مُضَافٌ إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ، وَحُكْمُهُ يَثْبُتُ بَعْدَ الْمَوْتِ.
وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَذْكُرْ قَوْلَهُ كَمَا يُحْرَمُ الْمِيرَاثَ لَتَمَّ دَلِيلُهُ الْعَقْلِيُّ بِلَا احْتِيَاجٍ إلَيْهِ فَإِنَّ اسْتِعْجَالَ الْقَاتِلِ مَا أَخَّرَهُ اللَّهُ تَعَالَى جُرْمٌ عَظِيمٌ يَسْتَدْعِي حِرْمَانَهُ عَنْ الْوَصِيَّةِ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ اسْتِدْعَائِهِ حِرْمَانَهُ عَنْ الْمِيرَاثِ وَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى لَا يُتَوَهَّمُ الرَّدُّ الْمَذْكُورُ أَصْلًا وَتَسْقُطُ الْكَلِمَاتُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِهِ بِحَذَافِيرِهَا كَمَا لَا يَخْفَى.
(قَوْلُهُ وَلَهُمَا أَنَّ الِامْتِنَاعَ لِحَقِّ الْوَرَثَةِ لِأَنَّ نَفْعَ بُطْلَانِهَا يَعُود إلَيْهِمْ كَنَفْعِ بُطْلَانِ الْمِيرَاثِ) أَقُولُ: أَرَى دَلِيلَهُمَا هَذَا ضَعِيفًا جِدًّا، فَإِنَّ قَوْلَهُ إنَّ الِامْتِنَاعَ لِحَقِّ الْوَرَثَةِ لَيْسَ بِظَاهِرٍ عَلَى الْإِطْلَاقِ، إذْ قَدْ تَقَرَّرَ فِيمَا مَرَّ أَنَّ الشَّرْعَ لَمْ يَعْتَبِرْ تَعَلُّقَ حَقِّهِمْ بِقَدْرِ الثُّلُثِ وَلِهَذَا جَازَتْ الْوَصِيَّةُ بِهَذَا الْقَدْرِ لِلْأَجَانِبِ وَإِنْ لَمْ يُجِزْهَا الْوَرَثَةُ، وَفِيمَا نَحْنُ فِيهِ لَمْ تُجَزْ الْوَصِيَّةُ بِشَيْءٍ لِلْقَاتِلِ بِدُونِ إجَازَةِ الْوَرَثَةِ فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ الِامْتِنَاعُ فِي قَدْرِ الثُّلُثِ أَيْضًا لِحَقِّهِمْ. ثُمَّ إنَّ تَعْلِيلَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ لِأَنَّ نَفْعَ بُطْلَانِهَا يَعُودُ إلَيْهِمْ كَنَفْعِ بُطْلَانِ الْمِيرَاثِ لَيْسَ بِتَامٍّ، لِأَنَّ مُجَرَّدَ عَوْدِ نَفْعِ بُطْلَانِهَا إلَيْهِمْ لَوْ اقْتَضَى كَوْنَ الِامْتِنَاعِ فِي الْوَصِيَّةِ لِحَقِّهِمْ لَاقْتَضَى كَوْنَهُ فِي الْإِرْثِ أَيْضًا لِحَقِّهِمْ، فَلَزِمَ أَنْ يَجُوزَ إرْثُ الْقَاتِلِ أَيْضًا بِإِجَازَتِهِمْ عِنْدَهُمَا وَلَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ. قَالَ فِي الْعِنَايَةِ: فَإِنْ قِيلَ: مَا الْفَرْقُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمِيرَاثِ إذَا أَجَازَتْ الْوَرَثَةُ حَيْثُ صَحَّتْ فِي الْوَصِيَّةِ دُونَ الْمِيرَاثِ. أُجِيبَ بِأَنَّ الْإِجَازَةَ تَصَرُّفٌ مِنْ الْعَبْدِ فَتُعْمَلُ فِيمَا كَانَ مِنْ جِهَةِ الْعَبْدِ وَالْوَصِيَّةُ مِنْ جِهَةِ الْعَبْدِ فَتُعْمَلُ فِيهِ، بِخِلَافِ الْمِيرَاثِ فَإِنَّهُ مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ لَا صُنْعَ لِلْعَبْدِ فِيهِ فَلَا يُعْمَلُ فِيهِ تَصَرُّفُ الْعَبْدِ انْتَهَى.
أَقُولُ: فِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّ الْكَلَامَ هُنَا لَيْسَ فِي نَفْسِ الْوَصِيَّةِ وَالْمِيرَاثِ حَتَّى يَتِمَّ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ أَحَدَهُمَا مِنْ جِهَةِ الْعَبْدِ وَالْآخَرَ مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ، بَلْ إنَّمَا الْكَلَامُ هُنَا فِي أَنَّ حِرْمَانَ الْقَاتِلِ عَنْ الْوَصِيَّةِ كَحِرْمَانِهِ عَنْ الْمِيرَاثِ أَوْ لَا، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ حِرْمَانِهِ عَنْ الْوَصِيَّةِ وَحِرْمَانِهِ عَنْ الْمِيرَاثِ فِي كَوْنِهِمَا مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ نَظَرًا إلَى دَلِيلِهِمَا، وَفِي كَوْنِهَا مِنْ جِهَةِ الْعَبْدِ نَظَرًا إلَى صُدُورِ سَبَبِهِمَا وَهُوَ الْقَتْلُ عَنْ الْعَبْدِ، فَمَا مَعْنَى أَنْ تُعْمَلَ الْإِجَازَةُ الَّتِي هِيَ تَصَرُّفٌ مِنْ الْعَبْدِ فِي ارْتِفَاعِ أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ، وَبِعِبَارَةٍ أُخْرَى إنَّ الْمِيرَاثَ وَإِنْ كَانَ مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ بِدُونِ صُنْعِ الْعَبْدِ إلَّا أَنَّ حِرْمَانَ الْقَاتِلِ عَنْهُ كَانَ مِنْ جِهَةِ الْعَبْدِ حَيْثُ بَاشَرَ الْقَتْلَ، فَكَانَ فِعْلُهُ هَذَا مَانِعًا عَنْ مِيرَاثِهِ مِنْ الْمَقْتُولِ فَلِمَ لَا تَجُوزُ أَنْ تُعْمَلَ الْإِجَازَةُ فِي رَفْعِ هَذَا الْمَانِعِ الَّذِي كَانَ مِنْ جِهَتِهِ وَبِصُنْعِهِ.
(قَوْلُهُ وَلِأَنَّهُ حَيْفٌ بِالْحَدِيثِ الَّذِي رَوَيْنَاهُ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: قَوْلُهُ بِالْحَدِيثِ الَّذِي رَوَيْنَاهُ إشَارَةٌ إلَى مَا تَقَدَّمَ فِي كِتَابِ الْهِبَةِ فِيمَنْ خَصَّصَ بَعْضَ أَوْلَادِهِ فِي الْعَطِيَّةِ انْتَهَى. أَقُولُ: هَذَا خَبْطٌ ظَاهِرٌ مِنْ الشَّارِحِ الْمَزْبُورِ إذْ لَمْ يَتَقَدَّمْ مِنْ الْمُصَنِّفِ فِي كِتَابِ الْهِبَةِ ذِكْرُ حَدِيثٍ فِي حَقِّ مَنْ خَصَّصَ بَعْضَ أَوْلَادِهِ فِي الْعَطِيَّةِ، بَلْ لَمْ يَتَقَدَّمْ مِنْهُ ثَمَّةَ ذِكْرُ تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ قَطُّ فَكَيْفَ تُتَصَوَّرُ الْحَوَالَةُ عَلَيْهِ بِهَا هَاهُنَا.
وَالصَّوَابُ أَنَّ مُرَادَ الْمُصَنِّفِ هُنَا بِقَوْلِهِ بِالْحَدِيثِ الَّذِي رَوَيْنَاهُ هُوَ الْإِشَارَةُ إلَى مَا ذَكَرَهُ فِي هَذَا الْكِتَابِ فِيمَا مَضَى عَنْ قَرِيبٍ بِقَوْلِهِ وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ «الْحَيْفُ فِي الْوَصِيَّةِ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ» وَفَسَّرُوهُ بِالزِّيَادَةِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute