قَالَ (إلَّا أَنْ تُجِيزَهَا الْوَرَثَةُ) وَيُرْوَى هَذَا الِاسْتِثْنَاءُ فِيمَا رَوَيْنَاهُ، وَلِأَنَّ الِامْتِنَاعَ لِحَقِّهِمْ فَتَجُوزُ بِإِجَازَتِهِمْ؛
ثُمَّ إنْ كَانَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِمْ بِتَأْوِيلِ الْمَذْكُورِ فِي أَمْثَالِ هَذَا الْمَقَامِ أَنْ يُقَالَ بِتَأَوُّلِ الشَّيْءِ الْمَذْكُورِ عَلَى أَنْ يُقَدَّرَ الْمَوْصُوفُ الْمُذَكَّرُ كَانَ الْأَمْرُ أَسْهَلَ وَيَرْتَفِعُ الِاشْتِبَاهُ بِالْكُلِّيَّةِ. ثُمَّ إنَّ الشُّرَّاحَ قَاطِبَةً قَالُوا فِي تَفْسِيرِ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ وَإِقْرَارُ الْمَرِيضِ لِلْوَارِثِ عَلَى عَكْسِهِ: أَيْ يُعْتَبَرُ فِي الْإِقْرَارِ لِلْوَارِثِ وَقْتُ الْإِقْرَارِ لَا وَقْتُ الْمَوْتِ.
وَقَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ بَعْدَ ذَلِكَ: إنَّ اعْتِبَارَ وَقْتِ الْإِقْرَارِ دُونَ وَقْتِ الْمَوْتِ لَيْسَ عَلَى إطْلَاقِهِ، بَلْ ذَلِكَ إذَا كَانَ كَوْنُهُ وَارِثًا بِسَبَبٍ حَادِثٍ، وَأَمَّا إذَا كَانَ كَوْنُهُ وَارِثًا بِسَبَبٍ كَانَ وَقْتَ الْإِقْرَارِ فَيُعْتَبَرُ كَوْنُهُ وَارِثًا وَقْتَ الْمَوْتِ أَيْضًا، ثُمَّ بَيَّنَ ذَلِكَ فِي مَرِيضٍ أَقَرَّ لِابْنِهِ الْعَبْدِ فَأُعْتِقَ فَمَاتَ الْأَبُ حَيْثُ صَحَّ الْإِقْرَارُ لِأَنَّ وِرَاثَتَهُ تَثْبُتُ بِسَبَبٍ حَادِثٍ وَهُوَ الْإِعْتَاقُ وَقَبْلَهُ كَانَ عَبْدًا وَكَسْبُ الْعَبْدِ لِمَوْلَاهُ، فَهَذَا الْإِقْرَارُ فِي الْمَعْنَى حَصَلَ لِلْمَوْلَى وَهُوَ أَجْنَبِيٌّ فَلَا يَبْطُلُ بِصَيْرُورَةِ الِابْنِ وَارِثًا بِسَبَبٍ حَادِثٍ.
وَلَوْ أَقَرَّ لِأَخِيهِ وَلَهُ ابْنٌ ثُمَّ مَاتَ الِابْنُ قَبْلَهُ حَتَّى صَارَ الْأَخُ وَارِثًا بَطَلَ إقْرَارُهُ عِنْدَنَا لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ وَارِثًا بِسَبَبٍ قَائِمٍ وَقْتَ الْإِقْرَارِ تَبَيَّنَ أَنَّ إقْرَارَهُ حَصَلَ لِوَارِثِهِ وَذَلِكَ بَاطِلٌ، هَذَا حَاصِلُ مَا ذَكَرَهُ.
وَقَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ بَعْدَ نَقْلِ مَا ذَكَرَ فِي النِّهَايَةِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَزْبُورِ: وَأَرَى أَنَّ إطْلَاقَ الْمُصَنِّفِ يُغْنِي عَنْ ذَلِكَ التَّطْوِيلِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ قَالَ: يُعْتَبَرُ فِي إقْرَارِ الْمَرِيضِ لِوَارِثِهِ كَوْنُهُ وَارِثًا عِنْدَ الْإِقْرَارِ، وَالْعَبْدُ لَيْسَ بِوَارِثٍ عِنْدَ الْإِقْرَارِ لِكَوْنِهِ مَحْرُومًا فَلَا يَكُونُ إقْرَارٌ لِلْوَارِثِ وَكَلَامُنَا فِيهِ وَالْأَخُ لَيْسَ بِمَحْرُومٍ فَيَكُونُ وَارِثًا عِنْدَ الْإِقْرَارِ، وَإِنْ كَانَ مَحْجُوبًا وَالْإِقْرَارُ لِلْوَارِثِ بَاطِلٌ انْتَهَى.
أَقُولُ: فِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ مَدَارَ هَذَا التَّوْجِيهِ أَنْ يَكُونَ مُرَادُ الْمُصَنِّفِ بِالْوَارِثِ مَا يَعُمُّ الْمَحْجُوبَ وَيُقَابِلُ الْمَحْرُومَ، وَلَيْسَ بِسَدِيدٍ، إذْ لَوْ كَانَ مُرَادُهُ بِالْوَارِثِ هُنَا ذَلِكَ لَكَانَ مُرَادُهُ بِهِ فِي قَوْلِهِ وَيُعْتَبَرُ كَوْنُهُ وَارِثًا أَوْ غَيْرَ وَارِثٍ وَقْتَ الْمَوْتِ لَا وَقْتَ الْوَصِيَّةِ أَيْضًا ذَلِكَ، وَإِلَّا لَمْ يَتِمَّ قَوْلُهُ وَإِقْرَارُ الْمَرِيضِ لِلْوَارِثِ عَلَى عَكْسِهِ، فَإِنَّ أَمْرَ الِانْعِكَاسِ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ عِنْدَ اتِّحَادِ الْمُرَادِ بِالْوَارِثِ، وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِالْوَارِثِ هُنَاكَ أَيْضًا ذَلِكَ لَفَسَدَ الْمَعْنَى، إذْ لَا يَخْفَى أَنَّ الْمُوصَى لَهُ إذَا كَانَ مَحْجُوبًا عَنْ الْمِيرَاثِ عِنْدَ مَوْتِ الْمُوصِي تَجُوزُ الْوَصِيَّةُ لَهُ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَطْعًا مَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ قَاضِي خَانْ فِي فَتَاوَاهُ، وَنَقَلَهُ الشُّرَّاحُ بِأَسْرِهِمْ عَنْهُ مِنْ قَبْلُ وَهُوَ أَنَّهُ لَوْ أَوْصَى لِإِخْوَتِهِ الثَّلَاثَةِ الْمُتَفَرِّقِينَ وَلَهُ ابْنٌ جَازَتْ الْوَصِيَّةُ لَهُمْ بِالسَّوِيَّةِ أَثْلَاثًا لِأَنَّهُمْ لَا يَرِثُونَ مَعَ الِابْنِ، فَإِنْ كَانَتْ لَهُ بِنْتٌ مَكَانَ الِابْنِ جَازَتْ الْوَصِيَّةُ لِلْأَخِ لِأَبٍ وَالْأَخِ لِأُمٍّ، وَبَطَلَتْ لِلْأَخِ لِأَبٍ وَأُمٍّ لِأَنَّهُ يَرِثُ مَعَ الْبِنْتِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ ابْنٌ وَلَا بِنْتٌ كَانَتْ الْوَصِيَّةُ لِلْأَخِ لِأَبٍ لِأَنَّهُ لَا يَرِثُهُ، وَبَطَلَتْ لِلْأَخِ لِأَبٍ وَأُمٍّ وَلِلْأَخِ لِأُمٍّ لِأَنَّهُمَا يَرِثَانِهِ انْتَهَى.
فَظَهَرَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْوَارِثِ هُنَا مَا ثَبَتَ لَهُ الْإِرْثُ بِالْفِعْلِ بِأَنْ لَا يَكُونَ مَحْرُومًا وَلَا مَحْجُوبًا فَاحْتِيجَ إلَى التَّقْيِيدِ فِي صُورَةِ الْإِقْرَارِ بِمَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ النِّهَايَةِ.
ثُمَّ إنَّ صَاحِبَ الْغَايَةِ رَدَّ عَلَى صَاحِبِ النِّهَايَةِ هُنَا بِوَجْهٍ آخَرَ حَيْثُ قَالَ: وَذُكِرَ فِي وَصَايَا الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: لَوْ أَنَّ الْمَرِيضَ أَقَرَّ لِابْنِهِ بِدَيْنٍ وَهُوَ نَصْرَانِيٌّ أَوْ عَبْدٌ ثُمَّ أَسْلَمَ الِابْنُ أَوْ أُعْتِقَ الْعَبْدُ ثُمَّ مَاتَ الرَّجُلُ فَالْإِقْرَارُ بَاطِلٌ، لِأَنَّهُ حِينَ أَقَرَّ كَانَ سَبَبُ التُّهْمَةِ بَيْنَهُمَا قَائِمًا وَهُوَ الْقَرَابَةُ الَّتِي صَارَ بِهَا وَارِثًا فِي ثَانِي الْحَالِ. ثُمَّ قَالَ: فَعَنْ هَذَا عَرَفْت أَنَّ مَا ذَكَرَ بَعْضُهُمْ فِي شَرْحِهِ سَهْوٌ مِنْهُ لَا يَصِحُّ نَقْلُهُ وَهُوَ أَنَّهُ قَالَ: أَقَرَّ لِابْنِهِ بِدَيْنِ عَبْدٍ ثُمَّ أُعْتِقَ ثُمَّ مَاتَ الْأَبُ وَهُوَ مِنْ وَرَثَتِهِ فَإِقْرَارُهُ بِالدَّيْنِ جَائِزٌ لِأَنَّ كَسْبَ الْعَبْدِ لِمَوْلَاهُ، فَهَذَا الْإِقْرَارُ حَصَلَ مِنْ الْمَرِيضِ فِي الْمَعْنَى لِلْمَوْلَى وَهُوَ أَجْنَبِيٌّ مِنْهُ اهـ.
أَقُولُ: السَّاهِي هُنَا صَاحِبُ الْغَايَةِ نَفْسُهُ، لِأَنَّ ذَلِكَ الْبَعْضَ الَّذِي نَسَبَ السَّهْوَ إلَيْهِ، فَإِنَّ الْمُصَنِّفَ ذَكَرَ مَا ذَكَرَهُ ذَلِكَ الْبَعْضُ نَقْلًا مِنْ كِتَابِ الْإِقْرَارِ فِي فَصْلِ اعْتِبَارِ حَالَةِ الْوَصِيَّةِ مِنْ بَابِ الْوَصِيَّةِ بِالثُّلُثِ فِيمَا سَيَأْتِي، وَاعْتَرَفَ صَاحِبُ الْغَايَةِ أَيْضًا ثَمَّةَ بِأَنَّ الصَّدْرَ الشَّهِيدَ وَغَيْرَهُ ذَكَرُوا مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ هُنَاكَ نَقْلًا عَنْ كِتَابِ الْإِقْرَارِ، فَمَا قَالَهُ هُنَا مِنْ أَنَّهُ سَهْوٌ مِنْهُ لَا يَصِحُّ لَعَلَّهُ غُفُولٌ عَنْ ذَلِكَ وَسَهْوٌ مِنْ نَفْسِهِ كَمَا لَا يَخْفَى.
نَعَمْ مَا ذَكَرَهُ ذَلِكَ الْبَعْضُ هُنَا يُخَالِفُ رِوَايَةَ وَصَايَا الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لَكِنْ لَا يَلْزَمُهُ مِنْهُ السَّهْوُ، فَإِنَّهُ بَنَى كَلَامَهُ هُنَا عَلَى رِوَايَةِ كِتَابِ الْإِقْرَارِ، وَمِثْلُ هَذَا لَيْسَ بِعَزِيزٍ فِي كَلِمَاتِ الثِّقَاتِ. ثُمَّ إنَّ تَاجَ الشَّرِيعَةِ بَعْدَ أَنْ فَسَّرَ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ