قَالَ (وَقَبُولُ الْوَصِيَّةِ بَعْدَ الْمَوْتِ فَإِنْ قَبِلَهَا الْمُوصَى لَهُ حَالَ الْحَيَاةِ أَوْ رَدَّهَا فَذَلِكَ بَاطِلٌ) لِأَنَّ أَوَانَ ثُبُوتِ حُكْمِهِ بَعْدَ الْمَوْتِ لِتَعَلُّقِهِ بِهِ فَلَا يُعْتَبَرُ قَبْلَهُ كَمَا لَا يُعْتَبَرُ قَبْلَ الْعَقْدِ.
قَالَ (وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُوصِيَ الْإِنْسَانُ بِدُونِ الثُّلُثِ) سَوَاءٌ كَانَتْ الْوَرَثَةُ أَغْنِيَاءَ أَوْ فُقَرَاءَ، لِأَنَّ فِي التَّنْقِيصِ صِلَةَ الْقَرِيبِ بِتَرْكِ مَا لَهُ عَلَيْهِمْ، بِخِلَافِ اسْتِكْمَالِ الثُّلُثِ،
وَاقْتَفَى أَثَرَهُمْ صَاحِبُ الْكَافِي وَشُرَّاحُ هَذَا الْكِتَابِ. أَقُولُ: وَالْإِنْصَافُ أَنَّ لَفْظَةَ بَاطِلَةٍ فِي عِبَارَةِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ مِمَّا يَأْبَى التَّوْفِيقُ الْمَذْكُورُ جِدًّا، إذْ قَدْ تَقَرَّرَ عِنْدَهُمْ أَنَّ الْبَاطِلَ مِنْ الْعُقُودِ لَا يُفِيدُ الْمِلْكَ، بِخِلَافِ الْفَاسِدِ مِنْهَا فَإِنَّهُ يُفِيدُ الْمِلْكَ عِنْدَ تَحَقُّقِ الْقَبْضِ، فَلَوْ كَانَ الْمَذْكُورُ فِي الْجَامِعِ لَفْظَةَ فَاسِدَةٍ بَدَلَ لَفْظَةِ بَاطِلَةٍ لَكَانَ لِذَلِكَ التَّوْفِيقِ وَجْهٌ وَلَيْسَ فَلَيْسَ. ثُمَّ أَقُولُ: لَعَلَّ الْحَقَّ هُنَا رَأْيُ صَاحِبِ الْمُحِيطِ، فَإِنَّهُ لَمْ يَقْبَلْ قَوْلَهُمْ ذَكَرَ فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ مَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الْوَصِيَّةِ لِلْحَرْبِيِّ، بَلْ نَقَلَ مَا ذُكِرَ فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ وَاسْتُنْبِطَ مِنْهُ بُطْلَانُ الْوَصِيَّةِ لِلْحَرْبِيِّ حَيْثُ قَالَ: وَفِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ قَالُوا: وَذَكَرَ فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ مَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الْوَصِيَّةِ لِلْحَرْبِيِّ.
وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ: مِنْهُمْ مَنْ وَفَّقَ بَيْنَ مَا ذُكِرَ فِي الْأَصْلِ وَبَيْنَ مَا ذُكِرَ فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ فَقَالَ: لَا يَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِ أَنْ يُوصِيَ لِلْحَرْبِيِّ كَمَا ذُكِرَ فِي الْأَصْلِ، وَلَكِنْ لَوْ فَعَلَ جَازَتْ وَثَبَتَ الْمِلْكُ لِلْمُوصَى لَهُ كَمَا ذُكِرَ فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ فِي الْمَسْأَلَةِ رِوَايَتَانِ، هَكَذَا قَالُوا. وَالْمَذْكُورُ فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ أَنَّ الْوَصِيَّةَ لِلْحَرْبِيِّ بَاطِلَةٌ، وَالصُّورَةُ الْمَذْكُورَةُ ثَمَّةَ لَوْ أَوْصَى مُسْلِمٌ لِحَرْبِيٍّ وَالْحَرْبِيُّ فِي دَارِ الْحَرْبِ لَا تَجُوزُ فَإِنْ خَرَجَ الْحَرْبِيُّ الْمُوصَى لَهُ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ بِأَمَانٍ وَأَرَادَ أَخْذَ وَصِيَّتِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ وَإِنْ أَجَازَتْ الْوَرَثَةُ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ وَقَعَتْ بِصِفَةِ الْبُطْلَانِ فَلَا تُعْمَلُ إجَازَةُ الْوَرَثَةِ فِيهَا، فَقَدْ نَصَّ عَلَى عَدَمِ الْجَوَازِ فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ وَنَصَّ عَلَى الْبُطْلَانِ فِي الْفَرْعِ وَأَنَّهُ دَلِيلٌ عَلَى بُطْلَانِهَا، إلَى هُنَا لَفْظُ الْمُحِيطِ فَتَأَمَّلْ، ثُمَّ إنَّ صَاحِبَ الدُّرَرِ وَالْغُرَرِ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ التَّوْفِيقَ الْمَارَّ الذِّكْرِ فِي عَامَّةِ الْكُتُبِ وَعَزَاهُ إلَى الْكَافِي وَالنِّهَايَةِ قَالَ: أَقُولُ لَا يَخْفَى بَعْدَهُ، بَلْ وَجْهُ التَّوْفِيقِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَهُوَ فِي دَارِهِمْ فَإِنَّهُ احْتِرَازٌ عَنْ حَرْبِيٍّ لَيْسَ فِي دَارِهِمْ وَهُوَ الْمُسْتَأْمَنُ، فَإِنَّ الْحَرْبِيَّ مَا دَامَ فِي دَارِ الْحَرْبِ مِمَّنْ يُقَاتِلُنَا بِخِلَافِ الْمُسْتَأْمَنِ فَإِنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ، وَهُوَ الْمُرَادُ مِمَّا ذُكِرَ فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ، انْتَهَى كَلَامُهُ.
أَقُولُ: هَذَا كَلَامٌ عَجِيبٌ، فَإِنَّ لَفْظَ السِّيَرِ الْكَبِيرِ عَلَى مَا نَقَلَهُ صَاحِبُ الْمُحِيطِ: لَوْ أَوْصَى مُسْلِمٌ لِحَرْبِيٍّ وَالْحَرْبِيُّ فِي دَارِ الْحَرْبِ لَا يَجُوزُ انْتَهَى، فَكَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَأْمَنُ هُوَ الْمُرَادَ مِمَّا ذُكِرَ فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ.
(قَوْلُهُ وَقَبُولُ الْوَصِيَّةِ بَعْدَ الْمَوْتِ، فَإِنْ قَبِلَهَا الْمُوصَى لَهُ حَالَ الْحَيَاةِ أَوْ رَدَّهَا فَذَلِكَ بَاطِلٌ) قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ: لَا يَخْفَى أَنَّ بَيَانَ وَقْتِ الْقَبُولِ حَقُّهُ أَنْ يُقَدَّمَ عَلَى بَيَانِ وُجُوبِ الْقَبُولِ فَيَنْبَغِي أَنْ يُقَدَّمَ قَوْلُهُ فَالْوَصِيُّ بِهِ يَمْلِكُ بِالْقَبُولِ عَلَى قَوْلِهِ وَقَبُولُ الْوَصِيَّةِ بَعْدَ الْمَوْتِ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَتَوَسَّطَ بَيْنَهُمَا مَسْأَلَةُ اسْتِحْبَابِ الْوَصِيَّةِ بِمَا دُونَ الثُّلُثِ اهـ. أَقُولُ: خَبَطَ ذَلِكَ الْقَائِلُ فِي تَحْرِيرِهِ هَذَا خَبْطَ عَشْوَاءَ، لِأَنَّ بَيَانَ وَقْتِ الْقَبُولِ إنْ كَانَ حَقُّهُ أَنْ يُقَدَّمَ عَلَى بَيَانِ وُجُوبِ الْقَبُولِ فَكَيْفَ يَصِحُّ قَوْلُهُ فَيَنْبَغِي أَنْ يُقَدِّمَ قَوْلَهُ فَالْمُوصَى بِهِ يَمْلِكُ بِالْقَبُولِ عَلَى قَوْلِهِ وَقَبُولُ الْوَصِيَّةِ بَعْدَ الْمَوْتِ، لِأَنَّ الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُقَدَّمَ إنَّمَا هُوَ مَا حَقُّهُ أَنْ يُقَدَّمَ وَهُوَ بَيَانُ وَقْتِ الْقَبُولِ عَلَى مُقْتَضَى صَرِيحِ كَلَامِهِ الْمَذْكُورِ، فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الَّذِي يَنْبَغِي عَكْسَ مَا ذَكَرَهُ وَذَلِكَ عَيْنُ مَا وَقَعَ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ، فَكَأَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَقُولَ: لَا يَخْفَى أَنَّ بَيَانَ وُجُوبِ الْقَبُولِ حَقُّهُ أَنْ يُقَدَّمَ عَلَى بَيَانِ وَقْتِ الْقَبُولِ فَخَبَطَ فِي تَحْرِيرِهِ حَيْثُ عَكَسَ الْأَمْرَ.
(قَوْلُهُ وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُوصِيَ الْإِنْسَانُ بِدُونِ الثُّلُثِ سَوَاءٌ كَانَتْ الْوَرَثَةُ أَغْنِيَاءَ أَوْ فُقَرَاءَ، لِأَنَّ فِي التَّنْقِيصِ صِلَةَ الْقَرِيبِ بِتَرْكِ مَالِهِ عَلَيْهِمْ) أَقُولُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: كَمَا أَنَّ فِي التَّنْقِيصِ صِلَةَ الْقَرِيبِ كَذَلِكَ فِي التَّكْمِيلِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute