لِأَنَّهُ اسْتِيفَاءُ تَمَامِ حَقِّهِ فَلَا صِلَةَ وَلَا مِنَّةَ، ثُمَّ الْوَصِيَّةُ بِأَقَلَّ مِنْ الثُّلُثِ أَوْلَى أَمْ تَرْكُهَا؟ قَالُوا: إنْ كَانَتْ الْوَرَثَةُ فُقَرَاءَ وَلَا يَسْتَغْنُونَ بِمَا يَرِثُونَ فَالتَّرْكُ أَوْلَى لِمَا فِيهِ مِنْ الصَّدَقَةِ عَلَى الْقَرِيبِ.
وَقَدْ قَالَ ﵊ «أَفْضَلُ الصَّدَقَةِ عَلَى ذِي الرَّحِمِ الْكَاشِحِ» وَلِأَنَّ فِيهِ رِعَايَةَ حَقِّ الْفُقَرَاءِ وَالْقَرَابَةِ جَمِيعًا،
صَدَقَةٌ عَلَى الْأَجْنَبِيِّ، وَفِيمَا إذَا كَانَتْ الْوَرَثَةُ أَغْنِيَاءَ كَانَتْ الصِّلَةُ لَهُمْ هِبَةً مِنْهُمْ، فَالصَّدَقَةُ أَوْلَى مِنْ الْهِبَةِ كَمَا سَيَجِيءُ التَّصْرِيحُ بِهِ فِي تَعْلِيلِ كَوْنِ الْوَصِيَّةِ بِدُونِ الثُّلُثِ أَوْلَى مِنْ تَرْكِهَا فِيمَا إذَا كَانَتْ الْوَرَثَةُ أَغْنِيَاءَ أَوْ يَسْتَغْنُونَ بِنَصِيبِهِمْ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ التَّكْمِيلُ أَيْضًا أَوْلَى مِنْ التَّنْقِيصِ فِيمَا إذَا كَانَتْ الْوَرَثَةُ أَغْنِيَاءَ لِتِلْكَ الْعِلَّةِ فَمَا وَجْهُ التَّعْمِيمِ هُنَا. وَالْجَوَابُ أَنَّ فِي التَّنْقِيصِ أَصْلَ صِلَةِ الْقَرِيبِ لَا زِيَادَتَهَا، وَفِي التَّكْمِيلِ زِيَادَةُ الصَّدَقَةِ لَا أَصْلُهَا لِتَحَقُّقِ أَصْلِهَا بِمَا دُونَ الثُّلُثِ بِدُونِ التَّكْمِيلِ، فَفِي اخْتِيَارِ التَّكْمِيلِ تَفْوِيتُ صِلَةِ الْقَرِيبِ عَنْ أَصْلِهَا: أَيْ بِالْكُلِّيَّةِ، وَلَيْسَ فِي التَّنْقِيصِ تَفْوِيتُ الصَّدَقَةِ بِالْكُلِّيَّةِ بَلْ فِيهِ تَفْوِيتُ بَعْضِهَا، فَكَانَ فِي اخْتِيَارِ التَّنْقِيصِ الْعَمَلُ بِالْفَضِيلَتَيْنِ مَعًا فَضِيلَةِ الصَّدَقَةِ وَفَضِيلَةِ صِلَةِ الْقَرِيبِ، وَفِي اخْتِيَارِ التَّكْمِيلِ الْعَمَلُ بِفَضِيلَةٍ وَاحِدَةٍ فَقَطْ وَهِيَ فَضِيلَةُ الصَّدَقَةِ وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْعَمَلَ بِهِمَا مَعًا أَوْلَى مِنْ الْعَمَلِ بِأَحَدِهِمَا فَقَطْ.
(قَوْلُهُ ثُمَّ الْوَصِيَّةُ بِأَقَلَّ مِنْ الثُّلُثِ أَوْلَى أَمْ تَرْكُهَا) أَقُولُ: وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: قَدْ حُكِمَ فِيمَا مَرَّ آنِفًا بِأَنَّ الْوَصِيَّةَ بِدُونِ الثُّلُثِ مُسْتَحَبَّةٌ سَوَاءٌ كَانَتْ الْوَرَثَةُ أَغْنِيَاءَ أَوْ فُقَرَاءَ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمُسْتَحَبَّ هُوَ الَّذِي كَانَ فِعْلُهُ أَوْلَى مِنْ تَرْكِهِ فَمَا مَعْنَى التَّرْدِيدِ هُنَا بِأَنَّ الْوَصِيَّةَ بِأَقَلَّ مِنْ الثُّلُثِ أَوْلَى أَمْ تَرْكُهَا وَالتَّفْصِيلُ بِقَوْلِهِ قَالُوا إنْ كَانَتْ الْوَرَثَةُ فُقَرَاءَ إلَخْ، وَالْجَوَابُ أَنَّ الِاسْتِحْبَابَ فِي قَوْلِهِ سَابِقًا وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُوصِيَ الْإِنْسَانُ بِدُونِ الثُّلُثِ لَيْسَ بِنَاظِرٍ إلَى قَوْلِهِ أَنْ يُوصِيَ الْإِنْسَانُ بَلْ إلَى قَوْلِهِ بِدُونِ الثُّلُثِ: أَيْ مَصَبُّ الْإِفَادَةِ فِي ذَلِكَ الْكَلَامِ قَيْدُهُ لَا نَفْسُهُ، فَمَآلُ مَعْنَاهُ إلَى أَنَّ التَّنْقِيصَ عَنْ الثُّلُثِ فِي الْوَصِيَّةِ مُسْتَحَبٌّ مُطْلَقًا، وَهَذَا إنَّمَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ التَّنْقِيصُ مِنْ الثُّلُثِ فِي الْوَصِيَّةِ أَوْلَى مِنْ التَّكْمِيلِ مُطْلَقًا وَلِهَذَا قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي تَعْلِيلِهِ: لِأَنَّ فِي التَّنْقِيصِ صِلَةَ الْقَرِيبِ بِتَرْكِ مَالِهِ عَلَيْهِمْ، وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يُنَافِي أَنْ يَكُونَ تَرْكُ الْوَصِيَّةِ بِالْكُلِّيَّةِ أَوْلَى مِنْ التَّنْقِيصِ عَنْ الثُّلُثِ أَيْضًا فِي بَعْضِ الصُّوَرِ، فَبَيَّنَ الْمُصَنِّفُ ذَلِكَ بِمَا قَالُوا: إنْ كَانَتْ الْوَرَثَةُ فُقَرَاءَ وَلَا يَسْتَغْنُونَ بِمَا يَرِثُونَ فَتَرْكُهَا بِالْكُلِّيَّةِ أَوْلَى، وَإِنْ كَانُوا أَغْنِيَاءَ أَوْ يَسْتَغْنُونَ بِنَصِيبِهِمْ فَالْوَصِيَّةُ أَوْلَى، فَلَمْ يَكُنْ تَرْدِيدُهُ وَتَفْصِيلُهُ هَاهُنَا مُخَالِفًا لِمَا سَبَقَ آنِفًا، بَلْ كَانَ بِمُلَاحَظَةِ ذَلِكَ وَرِعَايَتِهِ عَلَى حَالِهِ، هَكَذَا يَنْبَغِي أَنْ يُفْهَمَ هَذَا الْمَقَامُ.
(قَوْلُهُ لِمَا فِيهِ مِنْ الصَّدَقَةِ عَلَى الْقَرِيبِ، وَقَدْ قَالَ ﵊ «أَفْضَلُ الصَّدَقَةِ عَلَى ذِي الرَّحِمِ الْكَاشِحِ») وَالْكَاشِحُ: الْعَدُوُّ الَّذِي أَبْدَى كَشْحَهُ، وَهُوَ مَا بَيْنَ الْخَاصِرَةِ إلَى الضِّلْعِ. وَقِيلَ الْكَاشِحُ: هُوَ الَّذِي أَضْمَرَ الْعَدَاوَةَ فِي كَشْحِهِ. وَإِنَّمَا جَعَلَ هَذَا التَّصَدُّقَ أَفْضَلَ لِأَنَّ فِي التَّصَدُّقِ عَلَيْهِ مُخَالَفَةَ النَّفْسِ وَقَهْرَهَا، كَذَا فِي الْعِنَايَةِ وَغَيْرِهَا. أَقُولُ: فِيهِ شَيْءٌ، وَهُوَ أَنَّ الْحَدِيثَ حِينَئِذٍ إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى أَفْضَلِيَّةِ الصَّدَقَةِ عَلَى ذِي الرَّحِمِ الْكَاشِحِ لَا عَلَى أَفْضَلِيَّةِ الصَّدَقَةِ عَلَى الْقَرِيبِ مُطْلَقًا كَمَا هُوَ الْمَطْلُوبُ فَلَا يَتِمُّ التَّقْرِيبُ، وَقَدْ تَنَبَّهَ لَهُ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ حَيْثُ قَالَ: هَذَا الْحَدِيثُ لَا يَفِي بِتَمَامِ الْمُدَّعَى وَلِذَلِكَ لَمْ يُصَدِّرْهُ بِأَدَاةِ التَّعْلِيلِ، إلَّا أَنَّ قَوْلَهُ وَلِذَلِكَ لَمْ يُصَدِّرْهُ بِأَدَاةِ التَّعْلِيلِ لَا يُجْدِي نَفْعًا، لِأَنَّ ذَلِكَ الْحَدِيثَ فِي مَقَامِ التَّعْلِيلِ هُنَا سَوَاءٌ صَدَّرَهُ بِأَدَاةِ التَّعْلِيلِ أَوْ لَمْ يُصَدِّرهُ بِهَا، وَلِهَذَا صَدَّرَهُ صَاحِبُ الْكَافِي بِاللَّامِ حَيْثُ قَالَ: لِقَوْلِهِ ﵊ «أَفْضَلُ الصَّدَقَةِ عَلَى ذِي الرَّحِمِ الْكَاشِحِ» ثُمَّ إنَّ بَعْضَ الْمُتَأَخِّرِينَ كَأَنَّهُ قَصَدَ دَفْعَ ذَلِكَ الْقُصُورِ وَإِصْلَاحَ الْمَقَامِ فَقَالَ فِي شَرْحِ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ لِمَا فِيهِ مِنْ الصَّدَقَةِ عَلَى الْقَرِيبِ: هَذَا قِيَاسٌ مِنْ الشَّكْلِ الْأَوَّلِ كُبْرَاهُ مَطْوِيَّةٌ وَهِيَ وَكُلُّ صَدَقَةٍ عَلَى الْقَرِيبِ أَوْلَى مِنْ الصَّدَقَةِ عَلَى غَيْرِهِ أُقِيمَ دَلِيلُهَا مَقَامَهَا وَهُوَ قَوْلُهُ وَقَدْ قَالَ ﵊ «أَفْضَلُ الصَّدَقَةِ عَلَى ذِي الرَّحِمِ الْكَاشِحِ»
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute