وَإِنْ كَانُوا أَغْنِيَاءَ أَوْ يَسْتَغْنُونَ بِنَصِيبِهِمْ فَالْوَصِيَّةُ أَوْلَى لِأَنَّهُ يَكُونُ صَدَقَةً عَلَى الْأَجْنَبِيِّ، وَالتَّرْكُ هِبَةٌ مِنْ الْقَرِيبِ وَالْأُولَى أَوْلَى لِأَنَّهُ يَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى. وَقِيلَ فِي هَذَا الْوَجْهِ يُخَيَّرُ لِاشْتِمَالِ كُلٍّ مِنْهُمَا عَلَى فَضِيلَةٍ وَهُوَ الصَّدَقَةُ وَالصِّلَةُ فَيُخَيِّرُ بَيْنَ الْخَيْرَيْنِ. قَالَ (وَالْمُوصَى بِهِ يُمْلَكُ بِالْقَبُولِ) خِلَافًا لِزُفَرَ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ. هُوَ يَقُولُ: الْوَصِيَّةُ أُخْتُ الْمِيرَاثِ، إذْ كُلٌّ مِنْهُمَا خِلَافَةٌ لِمَا أَنَّهُ انْتِقَالٌ، ثُمَّ الْإِرْثُ يَثْبُتُ مِنْ غَيْرِ قَبُولٍ فَكَذَلِكَ الْوَصِيَّةُ.
وَلَنَا أَنَّ الْوَصِيَّةَ إثْبَاتُ مِلْكٍ جَدِيدٍ، وَلِهَذَا لَا يُرَدُّ الْمُوصَى لَهُ بِالْعَيْبِ، وَلَا يُرَدُّ عَلَيْهِ بِالْعَيْبِ، وَلَا يَمْلِكُ أَحَدٌ إثْبَاتَ الْمِلْكِ لِغَيْرِهِ إلَّا بِقَبُولِهِ، أَمَّا الْوِرَاثَةُ فَخِلَافَةٌ حَتَّى يَثْبُتَ فِيهَا هَذِهِ الْأَحْكَامُ فَيَثْبُتُ جَبْرًا مِنْ الشَّرْعِ مِنْ غَيْرِ قَبُولٍ.
قَالَ (إلَّا فِي مَسْأَلَةٍ وَاحِدَةٍ وَهِيَ أَنْ يَمُوتَ الْمُوصِي ثُمَّ يَمُوتَ الْمُوصَى لَهُ قَبْلَ الْقَبُولِ فَيَدْخُلُ الْمُوصَى بِهِ فِي مِلْكِ وَرَثَتِهِ) اسْتِحْسَانًا، وَالْقِيَاسُ أَنْ تَبْطُلَ الْوَصِيَّةُ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْمِلْكَ مَوْقُوفٌ عَلَى الْقَبُولِ فَصَارَ كَمَوْتِ الْمُشْتَرِي قَبْلَ قَبُولِهِ بَعْدَ إيجَابِ الْبَائِعِ.
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْوَصِيَّةَ مِنْ جَانِبِ الْمُوصِي قَدْ تَمَّتْ بِمَوْتِهِ تَمَامًا لَا يَلْحَقُهُ الْفَسْخُ مِنْ جِهَتِهِ، وَإِنَّمَا تَوَقَّفَتْ لِحَقِّ الْمُوصَى لَهُ، فَإِذَا مَاتَ دَخَلَ فِي مِلْكِهِ كَمَا فِي الْبَيْعِ الْمَشْرُوطِ فِيهِ الْخِيَارُ إذَا مَاتَ قَبْلَ الْإِجَازَةِ.
فَإِنَّهُ بِصَرِيحِهِ يَدُلُّ عَلَى أَفْضَلِيَّةِ الصَّدَقَةِ عَلَى ذِي رَحِمٍ كَاشِحٍ مِنْ الصَّدَقَةِ عَلَى ذِي رَحِمٍ غَيْرِ كَاشِحٍ. وَتَخْصِيصُ الْكَاشِحِ بِذِي الرَّحِمِ يَدُلُّ عَلَى أَفْضَلِيَّةِ الصَّدَقَةِ عَلَى ذِي الرَّحِمِ مِنْهَا عَلَى غَيْرِ ذِي الرَّحِمِ انْتَهَى.
أَقُولُ: لَيْسَ ذَاكَ أَيْضًا بِتَامٍّ فَإِنَّا إنْ أَغْمَضْنَا عَنْ مَنْعِ قَوْلِهِ فَإِنَّهُ بِصَرِيحِهِ يَدُلُّ عَلَى أَفْضَلِيَّةِ الصَّدَقَةِ عَلَى ذِي الرَّحِمِ كَاشِحٍ مِنْ الصَّدَقَةِ عَلَى ذِي رَحِمٍ غَيْرِ كَاشِحٍ نَمْنَعُ جِدًّا قَوْلَهُ وَتَخْصِيصُ الْكَاشِحِ بِذِي الرَّحِمِ يَدُلُّ عَلَى أَفْضَلِيَّةِ الصَّدَقَةِ عَلَى ذِي الرَّحِمِ عَلَى غَيْرِ ذِي الرَّحِمِ، فَإِنَّ تَخْصِيصَ الْكَاشِحِ بِذِي الرَّحِمِ إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى أَنْ يَكُونَ لِلتَّصَدُّقِ عَلَى ذِي الرَّحِمِ تَأْثِيرٌ فِي أَفْضَلِيَّةِ الصَّدَقَةِ، كَمَا أَنَّ لِكَوْنِهِ كَاشِحًا تَأْثِيرًا فِيهَا، وَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ التَّصَدُّقُ عَلَى ذِي الرَّحِمِ الْغَيْرِ الْكَاشِحِ أَفْضَلَ مِنْ التَّصَدُّقِ عَلَى غَيْرِ ذِي الرَّحِمِ الْكَاشِحِ، لِأَنَّ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا انْتِفَاءَ أَحَدِ سَبَبَيْ الْأَفْضَلِيَّةِ الْمُسْتَفَادَيْنِ مِنْ الْحَدِيثِ الشَّرِيفِ، فَمِنْ أَيْنَ يُعْلَمُ أَفْضَلِيَّةُ أَحَدِهِمَا تَأَمَّلْ تَقِفْ.
(قَوْلُهُ وَإِنْ كَانُوا أَغْنِيَاءَ أَوْ يَسْتَغْنُونَ بِنَصِيبِهِمْ فَالْوَصِيَّةُ أَوْلَى لِأَنَّهُ يَكُونُ صَدَقَةً عَلَى الْأَجْنَبِيِّ، وَالتَّرْكُ هِبَةٌ مِنْ الْقَرِيبِ وَالْأُولَى أَوْلَى) أَقُولُ: لِمَانِعٍ أَنْ يَمْنَعَ كَوْنَ الْوَصِيَّةِ صَدَقَةً عَلَى الْأَجْنَبِيِّ مُطْلَقًا، إذْ الْأَجْنَبِيُّ الْمُوصَى لَهُ قَدْ يَكُونُ غَنِيًّا أَيْضًا فَلَمْ يَثْبُت أَوْلَوِيَّةُ الْوَصِيَّةِ مِنْ تَرْكِهَا عَلَى الْإِطْلَاقِ فِيمَا إذَا كَانَتْ الْوَرَثَةُ أَغْنِيَاءَ أَوْ يَسْتَغْنُونَ بِنَصِيبِهِمْ فَتَدَبَّرْ.
(قَوْلُهُ وَلِهَذَا لَا يُرَدُّ الْمُوصَى لَهُ بِالْعَيْبِ وَلَا يُرَدُّ عَلَيْهِ بِالْعَيْبِ) قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ الشُّرَّاحِ مِنْهُمْ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: صُورَةُ الْأَوَّلِ أَنْ يَشْتَرِيَ الْمَرِيضُ شَيْئًا وَيُوصِيَ بِهِ لِرَجُلٍ ثُمَّ الْمُوصَى لَهُ يَجِدُهُ مَعِيبًا فَإِنَّهُ لَا يَرُدُّهُ عَلَى بَائِعِهِ. وَصُورَةُ الثَّانِي أَنْ يُوصِيَ بِجَمِيعِ مَالِهِ لِإِنْسَانٍ ثُمَّ بَاعَ شَيْئًا مِنْ التَّرِكَةِ وَوَجَدَ الْمُشْتَرِي بِهِ عَيْبًا لَا يَرُدُّهُ عَلَى الْمُوصَى لَهُ انْتَهَى. أَقُولُ: فِي تَصْوِيرِ الثَّانِي بِمَا ذَكَرَ نَظَرٌ، لِأَنَّ الْمُوصِيَ إذَا بَاعَ شَيْئًا مِنْ الْمُوصَى بِهِ يَصِيرُ رَاجِعًا عَنْ وَصِيَّتِهِ كَمَا سَيَجِيءُ تَفْصِيلُهُ عَنْ قَرِيبٍ،
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute