للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَلَا وَجْهَ لِرَدِّ الْيَمِينِ

الْمُنْكِرِ حَقُّ الْمُدَّعِي لِقَوْلِهِ «لَك يَمِينُهُ» كَمَا مَرَّ، فَلَوْ تَرَفَّعَ عَنْ الْيَمِينِ وَلَوْ عَنْ الصَّادِقَةِ بِدُونِ رِضَا الْمُدَّعِي بِالْبَذْلِ وَنَحْوِهِ أَفْضَى إلَى الضَّرَرِ بِالْمُدَّعِي بِمَنْعِ حَقِّهِ وَهُوَ يَمِينُ خَصْمِهِ.

وَقَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ وَصَاحِبُ الْكِفَايَةِ: فَتَرَجَّحَ هَذَا الْجَانِبُ: أَيْ جَانِبُ كَوْنِهِ بَاذِلًا أَوْ مُقِرًّا عَلَى جَانِبِ التَّوَرُّعِ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ أَلْزَمَهُ التَّوَرُّعَ عَنْ الْيَمِينِ الْكَاذِبَةِ دُونَ التَّرَفُّعِ عَنْ الْيَمِينِ الصَّادِقَةِ فَلِذَلِكَ تَرَجَّحَ هَذَا الْجَانِبُ فِي نُكُولِهِ انْتَهَى.

أَقُولُ: وَفِيهِ أَيْضًا بَحْثٌ، أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ مَا ذَكَرَاهُ مِنْ الدَّلِيلِ إنَّمَا أَفَادَ رُجْحَانَ هَذَا الْجَانِبِ: أَيْ جَانِبِ كَوْنِهِ بَاذِلًا أَوْ مُقِرًّا عَلَى التَّرَفُّعِ عَنْ الْيَمِينِ الصَّادِقَةِ حَيْثُ لَمْ يَكُنْ التَّرَفُّعُ عَنْهَا مِمَّا أَلْزَمَهُ الشَّرْعُ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَلْتَزِمَهُ النَّاكِلُ، وَلَمْ يُفِدْ رُجْحَانُهُ عَلَى التَّوَرُّعِ عَنْ الْيَمِينِ الْكَاذِبَةِ فَلَا مَعْنَى لِقَوْلِهِمَا عَلَى جَانِبِ التَّوَرُّعِ، وَإِنْ أُرِيدَ بِجَانِبِ التَّوَرُّعِ الْجَانِبُ الْمُقَابِلُ لِجَانِبِ الْبَذْلِ وَالْإِقْرَارِ لَا التَّوَرُّعُ نَفْسُهُ فَيَكُونُ التَّرَفُّعُ أَيْضًا دَاخِلًا فِي ذَلِكَ الْجَانِبِ، يَبْقَى أَنْ يُقَالَ: مَا ذَكَرَاهُ مِنْ الدَّلِيلِ إنَّمَا أَفَادَ رُجْحَانَ جَانِبِ كَوْنِهِ بَاذِلًا أَوْ مُقِرًّا عَلَى التَّرَفُّعِ عَنْ الْيَمِينِ الصَّادِقَةِ فَقَطْ، وَهُوَ يَحْتَمِلُ وَاحِدًا مِنْ الْمُحْتَمَلَاتِ الْمَذْكُورَةِ فِي دَلِيلِ الْخَصْمِ، وَبِمُجَرَّدِ الرُّجْحَانِ عَلَيْهِ لَا يَتِمُّ مَطْلُوبُنَا كَمَا مَرَّ آنِفًا.

وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ مَا ذَكَرَاهُ مِنْ الدَّلِيلِ غَيْرُ مَذْكُورٍ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ وَغَيْرُ مُنْفَهِمٍ مِنْهُ، فَكَيْفَ يَتِمُّ بِنَاءُ شَرْحِ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ، فَتَرَجَّحَ هَذَا الْجَانِبُ عَلَيْهِ، وَالْفَاءُ فِي فَتَرَجَّحَ تَقْتَضِي التَّفْرِيعَ عَلَى مَا سَبَقَ مِنْ كَلَامِهِ كَمَا لَا يَخْفَى. وَقَالَ صَاحِبُ غَايَةِ الْبَيَانِ: فَتَرَجَّحَ هَذَا الْجَانِبُ: أَيْ تَرَجَّحَ جَانِبُ كَوْنِ النَّاكِلِ بَاذِلًا أَوْ مُقِرًّا عَلَى الْوَجْهِ الْمُحْتَمَلِ، وَهُوَ كَوْنُهُ مُتَوَرِّعًا أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ لِأَنَّ النُّكُولَ امْتِنَاعٌ عَنْ الْيَمِينِ الَّتِي وَجَبَتْ عَلَيْهِ، فَلَوْلَا أَنَّ النُّكُولَ بَذْلٌ أَوْ إقْرَارٌ لَكَانَ النُّكُولُ امْتِنَاعًا عَنْ الْوَاجِبِ وَظُلْمًا عَلَى الْمُدَّعِي، وَالْعَاقِلُ الدَّيِّنُ لَا يَتْرُكُ الْوَاجِبَ وَلَا يُقْدِمُ عَلَى الظُّلْمِ.

وَالْحَاصِلُ أَنَّ النُّكُولَ إنْ كَانَ امْتِنَاعًا عَنْ الْيَمِينِ الْكَاذِبَةِ يَكُونُ إقْرَارًا، وَإِنْ كَانَ امْتِنَاعًا عَنْ الْيَمِينِ الصَّادِقَةِ يَكُونُ بَذْلًا انْتَهَى. أَقُولُ: وَفِيهِ أَيْضًا بَحْثٌ، أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ قَوْلَهُ وَظُلْمًا عَلَى الْمُدَّعِي لَيْسَ بِتَامٍّ، إذْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ النُّكُولَ لَوْ لَمْ يَكُنْ بَذْلًا أَوْ إقْرَارًا لَكَانَ ظُلْمًا عَلَى الْمُدَّعِي لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ لِلتَّرَفُّعِ عَنْ الْيَمِينِ الصَّادِقَةِ، فَحِينَئِذٍ لَا يَتَحَقَّقُ الظُّلْمُ عَلَى الْمُدَّعِي لِأَنَّ صِدْقَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِي إنْكَارِهِ يَسْتَلْزِمُ كَذِبَ الْمُدَّعِي فِي دَعْوَاهُ وَالْكَاذِبُ لَيْسَ بِمَظْلُومٍ بَلْ هُوَ ظَالِمٌ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُقَالَ: يَجُوزُ أَنْ يُعَدَّ النُّكُولُ ظُلْمًا عَلَى الْمُدَّعِي فِي صُورَةِ صِدْقِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَيْضًا مِنْ جِهَةِ أَنَّ يَمِينَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ حَقُّ الْمُدَّعِي بِمُوجِبِ الْحَدِيثِ عَلَى مَا مَرَّ، وَأَنَّ فِي النُّكُولِ عَنْهَا مَنْعَ هَذَا الْحَقِّ فَصَارَ النَّاكِلُ ظَالِمًا عَلَى الْمُدَّعِي فِي الْجُمْلَةِ.

وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ فِي التَّوْزِيعِ الْحَاصِلِ مِنْ قَوْلِهِ وَالْحَاصِلُ أَنَّ النُّكُولَ إنْ كَانَ امْتِنَاعًا عَنْ الْيَمِينِ الْكَاذِبَةِ يَكُونُ إقْرَارًا، وَإِنْ كَانَ امْتِنَاعًا عَنْ الْيَمِينِ الصَّادِقَةِ يَكُونُ بَذْلًا خَلَلًا حَيْثُ لَا يَكُونُ الْمَطْلُوبُ حِينَئِذٍ عَلَى وَاحِدٍ مِنْ الْمَذْهَبَيْنِ، بَلْ يَحْتَاجُ إلَى خَلْطِهِمَا عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِي بَحْثِنَا الْأَوَّلِ فِي كَلَامِ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ، فَالصَّوَابُ عِنْدِي فِي حَلِّ مُرَادِ الْمُصَنِّفِ هَاهُنَا أَنْ يُقَالَ: فَتَرَجَّحَ هَذَا الْجَانِبُ: أَيْ جَانِبُ كَوْنِ النَّاكِلِ بَاذِلًا أَوْ مُقِرًّا عَلَى جَمِيعِ الْوُجُوهِ الْمُحْتَمَلَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي دَلِيلِ الشَّافِعِيِّ بِنَاءً عَلَى مُقْتَضَى مَا سَبَقَ مِنْ قَوْلِهِ إذْ لَوْلَا ذَلِكَ لَأَقْدَمَ عَلَى الْيَمِينِ إقَامَةً لِلْوَاجِبِ وَدَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْ نَفْسِهِ.

وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ الْعَاقِلَ الدَّيِّنَ لَا يَتْرُكُ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ وَلَا يَتْرُكُ دَفْعَ الضَّرَرِ عَنْ نَفْسِهِ بِشَيْءٍ مِنْ تِلْكَ الْوُجُوهِ الْمُحْتَمَلَةِ. أَمَّا بِالتَّرَفُّعِ عَنْ الْيَمِينِ الصَّادِقَةِ فَظَاهِرٌ، إذْ هُوَ لَيْسَ بِأَمْرٍ ضَرُورِيٍّ أَصْلًا حَتَّى يَتْرُكَ بِهِ الْوَاجِبَ وَدَفْعَ الضَّرَرِ عَنْ النَّفْسِ، وَأَمَّا بِالتَّوَرُّعِ عَنْ الْيَمِينِ الْكَاذِبَةِ فَلِأَنَّ الْمُتَوَرِّعَ لَا يَتْرُكُ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ بَلْ يُعْطِي حَقَّ خَصْمِهِ فَيَسْقُطُ الْوَاجِبُ عَنْ عُهْدَتِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ النَّاكِلُ بَاذِلًا أَوْ مُقِرًّا وَلَمْ يُقْدِمْ عَلَى الْيَمِينِ انْتَفَى احْتِمَالُ كَوْنِهِ مُتَوَرِّعًا. وَأَمَّا بِاشْتِبَاهِ الْحَالِ فَلِأَنَّ مَنْ يُشْتَبَهُ عَلَيْهِ الْحَالُ لَا يَتْرُكُ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ أَيْضًا بَلْ يَتَحَرَّى فَيُقْدِمُ عَلَى إقَامَةِ الْوَاجِبِ أَوْ يُعْطِي حَقَّ خَصْمِهِ فَيَسْقُطُ عَنْ عُهْدَتِهِ الْوَاجِبُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ النَّاكِلُ بَاذِلًا أَوْ مُقِرًّا وَلَمْ يُقْدِمْ عَلَى الْيَمِينِ انْتَفَى هَذَا الِاحْتِمَالُ أَيْضًا.

وَبِالْجُمْلَةِ إنَّ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ إذْ لَوْلَا ذَلِكَ لَأَقْدَمَ عَلَى الْيَمِينِ إقَامَةً لِلْوَاجِبِ وَدَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْ نَفْسِهِ كَلِمَةٌ جَامِعَةٌ يَنْدَفِعُ بِهَا الْوُجُوهُ الْمُحْتَمَلَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي دَلِيلِ الشَّافِعِيِّ بِأَسْرِهَا فَيَتَرَجَّحُ كَوْنُ النَّاكِلِ بَاذِلًا أَوْ مُقِرًّا بِالضَّرَرِ (وَلَا وَجْهَ لِرَدِّ الْيَمِينِ

<<  <  ج: ص:  >  >>