ثُمَّ النُّكُولُ قَدْ يَكُونُ حَقِيقِيًّا كَقَوْلِهِ لَا أَحْلِفُ، وَقَدْ يَكُونُ حُكْمِيًّا بِأَنْ يَسْكُتَ، وَحُكْمُهُ حُكْمُ الْأَوَّلِ إذَا عَلِمَ أَنَّهُ لَا آفَةَ بِهِ مِنْ طَرَشٍ أَوْ خَرَسٍ هُوَ الصَّحِيحُ
مَرَّاتٍ. وَفِي النِّهَايَةِ: وَذَكَرَ فِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ صُورَةَ الْمَسْأَلَةِ قَالَ: رَجُلٌ قَدَّمَ رَجُلًا إلَى الْقَاضِي فَادَّعَى عَلَيْهِ مَالًا أَوْ ضَيْعَةً فِي يَدِهِ أَوْ حَقًّا مِنْ الْحُقُوقِ فَأَنْكَرَ فَاسْتَحْلَفَهُ الْقَاضِي فَأَبَى أَنْ يَحْلِفَ، فَإِنَّهُ يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَقُولَ لَهُ إنِّي أَعْرِضُ عَلَيْك الْيَمِينَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَإِنْ حَلَفْت وَإِلَّا أَلْزَمْتُك الْمُدَّعَى، ثُمَّ يَقُولُ لَهُ الْقَاضِي: احْلِفْ بِاَللَّهِ مَا لِهَذَا عَلَيْك هَذَا الْمَالُ الَّذِي يَدَّعِي وَهُوَ كَذَا وَكَذَا وَلَا شَيْءَ مِنْهُ، فَإِنْ أَبَى أَنْ يَحْلِفَ بِاَللَّهِ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى يَقُولُ لَهُ فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ كَذَلِكَ، فَإِنْ أَبَى أَنْ يَحْلِفَ فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ يَقُولُ لَهُ بَقِيَتْ الثَّالِثَةُ ثُمَّ أَقْضِي عَلَيْك إنْ لَمْ تَحْلِفْ، ثُمَّ يَقُولُ لَهُ ثَالِثًا احْلِفْ بِاَللَّهِ مَا لِهَذَا عَلَيْك هَذَا الْمَالُ وَلَا شَيْءَ مِنْهُ، فَإِنْ أَبَى أَنْ يَحْلِفَ يَقْضِي عَلَيْهِ بِدَعْوَى الْمُدَّعِي، وَإِنْ قَضَى الْقَاضِي بِالنُّكُولِ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى نَفَذَ قَضَاؤُهُ انْتَهَى.
قَالَ صَاحِبُ الْكَافِي: وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ النُّكُولُ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ، وَهَلْ يُشْتَرَطُ الْقَضَاءُ عَلَى فَوْرِ النُّكُولِ؟ فِيهِ اخْتِلَافٌ انْتَهَى. وَقَالَ الْإِمَامُ الزَّيْلَعِيُّ فِي شَرْحِ الْكَنْزِ: وَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ النُّكُولُ فِي مَجْلِسِ الْقَاضِي لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ يَمِينٌ قَاطِعٌ لِلْخُصُومَةِ، وَلَا مُعْتَبَرَ بِالْيَمِينِ عِنْدَ غَيْرِهِ فِي حَقِّ الْخُصُومَةِ فَلَا يُعْتَبَرُ، وَهَلْ يُشْتَرَطُ الْقَضَاءُ عَلَى فَوْرِ النُّكُولِ؟ فِيهِ اخْتِلَافٌ. ثُمَّ إذَا حَلَفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَالْمُدَّعِي عَلَى دَعْوَاهُ وَلَا يَبْطُلُ حَقُّهُ بِيَمِينِهِ، إلَّا أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُخَاصِمَهُ مَا لَمْ يُقِمْ الْبَيِّنَةَ عَلَى وَفْقِ دَعْوَاهُ، فَإِنْ وَجَدَ بَيِّنَةً أَقَامَهَا عَلَيْهِ وَقَضَى لَهُ بِهَا، وَبَعْضُ الْقُضَاةِ مِنْ السَّلَفِ كَانُوا لَا يَسْمَعُونَ الْبَيِّنَةَ بَعْدَ الْحَلِفِ وَيَقُولُونَ تَرَجَّحَ جَانِبُ صِدْقِهِ بِالْيَمِينِ فَلَا تُقْبَلُ بَيِّنَةُ الْمُدَّعِي بَعْدَ ذَلِكَ كَمَا تَرَجَّحَ جَانِبُ صِدْقِ الْمُدَّعِي بِالْبَيِّنَةِ حَتَّى لَا يُعْتَبَرَ يَمِينُ الْمُنْكِرِ مَعَهَا، وَهَذَا الْقَوْلُ مَهْجُورٌ غَيْرُ مَأْخُوذٍ بِهِ، وَلَيْسَ بِشَيْءٍ أَصْلًا لِأَنَّ عُمَرَ ﵁ قَبِلَ الْبَيِّنَةَ مِنْ الْمُدَّعِي بَعْدَ يَمِينِ الْمُنْكِرِ.
وَكَانَ شُرَيْحٌ ﵀ يَقُولُ: الْيَمِينُ الْفَاجِرَةُ أَحَقُّ أَنْ تُرَدَّ مِنْ الْبَيِّنَةِ الْعَادِلَةِ، وَهَلْ يَظْهَرُ كَذِبُ الْمُنْكِرِ بِإِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ؟ وَالصَّوَابُ أَنَّهُ لَا يَظْهَرُ كَذِبُهُ حَتَّى لَا يُعَاقَبَ عُقُوبَةَ شَاهِدِ الزُّورِ وَلَا يَحْنَثُ فِي يَمِينِهِ: إنْ كَانَ لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَادَّعَى عَلَيْهِ فَأَنْكَرَ فَحَلَفَ ثُمَّ أَقَامَ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ أَنَّ لَهُ عَلَيْهِ أَلْفًا، وَقِيلَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَظْهَرُ كَذِبُهُ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَظْهَرُ، إلَى هَاهُنَا كَلَامُهُ (ثُمَّ النُّكُولُ قَدْ يَكُونُ حَقِيقِيًّا كَقَوْلِهِ لَا أَحْلِفُ وَقَدْ يَكُونُ حُكْمِيًّا بِأَنْ يَسْكُتَ، وَحُكْمُهُ) أَيْ حُكْمُ الثَّانِي وَهُوَ الْحُكْمِيُّ (حُكْمُ الْأَوَّلِ) وَهُوَ الْحَقِيقِيُّ (إذَا عَلِمَ أَنَّهُ لَا آفَةَ بِهِ) أَيْ بِالْمُدَّعَى عَلَيْهِ (مِنْ طَرَشٍ) الطَّرَشُ بِفَتْحَتَيْنِ أَهْوَنُ الصَّمَمِ يُقَالُ هُوَ مُوَلَّدٌ (أَوْ خَرَسٍ) بِفَتْحَتَيْنِ أَيْضًا: آفَةٌ بِاللِّسَانِ تَمْنَعُ الْكَلَامَ أَصْلًا (هُوَ الصَّحِيحُ) اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَاتُ فِيمَا إذَا سَكَتَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بَعْدَ عَرْضِ الْيَمِينِ عَلَيْهِ وَلَمْ يَقُلْ لَا أَحْلِفُ.
فَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: إذَا سَكَتَ سَأَلَ الْقَاضِي عَنْهُ هَلْ بِهِ خَرَسٌ أَوْ طَرَشٌ، فَإِنْ قَالُوا لَا جَعَلَهُ نَاكِلًا وَقَضَى عَلَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ يَجْلِسُ حَتَّى يُجِيبَ، وَالْأَوَّلُ صَحِيحٌ كَذَا فِي
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute