وَالْكِتَابَةُ وَالصُّلْحُ عَلَى الْإِنْكَارِ. فَأَمَّا الصُّلْحُ الَّذِي هُوَ جَارٍ مَجْرَى الْبَيْعِ فَهُوَ مِنْ الضَّرْبِ الْأَوَّلِ، وَالْوَكِيلُ بِالْهِبَةِ وَالتَّصَدُّقِ وَالْإِعَارَةِ وَالْإِيدَاعِ وَالرَّهْنِ وَالْإِقْرَاضِ سَفِيرٌ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ فِيمَا يَثْبُتُ بِالْقَبْضِ،
قَوْلُهُ وَالضَّرْبُ الثَّانِي مُبْتَدَأٌ مَوْصُوفٌ. وَقَوْلُهُ مِنْ أَخَوَاتِهِ خَبَرٌ مُقَدَّمٌ لِمُبْتَدَإٍ ثَانٍ وَهُوَ قَوْلُهُ الْعِتْقُ عَلَى مَالٍ. وَالْجُمْلَةُ أَعْنِي الْمُبْتَدَأَ الثَّانِيَ مَعَ خَبَرِهِ خَبَرٌ لِلْمُبْتَدَأِ الْأَوَّلِ، فَحَاصِلُ الْمَعْنَى وَمِنْ أَخَوَاتِ الضَّرْبِ الثَّانِي الْعِتْقُ عَلَى مَالٍ.
قَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ فِي تَفْسِيرِ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ هَاهُنَا: أَيْ الْعُقُودُ الَّتِي ذُكِرَتْ فِي الضَّرْبِ الثَّانِي مِنْ أَخَوَاتِهَا الْعِتْقُ عَلَى مَالٍ، وَقَالَ: إنَّمَا فَسَّرْنَا بِهِ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ عَلَى مَالٍ وَأَخَوَاتِهِ مِنْ مَشْمُولَاتِ الضَّرْبِ الثَّانِي لَا مِنْ أَخَوَاتِهِ. أَقُولُ: لَا يَذْهَبُ عَلَى ذِي مُسْكَةٍ أَنَّ التَّفْسِيرَ الَّذِي ذَكَرَهُ ذَلِكَ الْقَائِلُ مِمَّا لَا يُسَاعِدُهُ التَّرْكِيبُ مِنْ حَيْثُ الْعَرَبِيَّةُ أَصْلًا فَكَيْفَ يُحْمَلُ الْمَعْنَى عَلَيْهِ، وَأَمَّا كَوْنُ الْعِتْقِ عَلَى مَالٍ وَأَخَوَاتِهِ مِنْ مَشْمُولَاتِ الضَّرْبِ الثَّانِي لَا مِنْ أَخَوَاتِهِ فَإِنَّمَا يُنَافِي اعْتِبَارَ الْأُخُوَّةِ بَيْنَ الضَّرْبِ الثَّانِي وَمَشْمُولَاتِهِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ ضَرُورَاتِ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ هَاهُنَا؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إضَافَةُ الْأَخَوَاتِ إلَى ضَمِيرِ الضَّرْبِ الثَّانِي لِكَوْنِهَا مِنْ أَفْرَادِهِ، وَيَكُونُ التَّعْبِيرُ عَنْهَا بِالْأَخَوَاتِ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى مُشَارَكَتِهَا فِي الْحُكْمِ كَمَا أَشَرْنَا إلَيْهِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ مِنْ أَخَوَاتِهِ. نَعَمْ الْمُتَبَادَرُ مِنْ الْإِضَافَةِ اعْتِبَارُ الْأُخُوَّةِ بَيْنَ الْمُضَافِ وَالْمُضَافِ إلَيْهِ كَمَا فِي نَظَائِرِهِ، لَكِنَّ قَرِينَةَ الْمَقَامِ صَارِفَةٌ عَنْهُ إلَى مَا قُلْنَا فَتَدَبَّرْ (وَالْكِتَابَةُ) عَطْفٌ عَلَى الْعِتْقِ عَلَى مَالٍ دَاخِلٍ فِي حُكْمِ الْكَلَامِ السَّابِقِ؛ وَكَذَا قَوْلُهُ (وَالصُّلْحُ عَلَى الْإِنْكَارِ) وَإِنَّمَا جَعَلَ هَذِهِ الْعُقُودَ مِنْ قَبِيلِ الضَّرْبِ الثَّانِي؛ لِأَنَّهَا مِنْ الْإِسْقَاطَاتِ دُونَ الْمُعَاوَضَاتِ.
أَمَّا الْعِتْقُ عَلَى مَالٍ وَالْكِتَابَةُ فَلِأَنَّ الْبَدَلَ فِيهِمَا بِمُقَابَلَةِ إزَالَةِ الرِّقِّ وَفَكِّ الْحَجْرِ. وَأَمَّا الصُّلْحُ عَلَى الْإِنْكَارِ فَلِأَنَّ الْبَدَلَ فِيهِ بِمُقَابَلَةِ دَفْعِ الْخُصُومَةِ وَافْتِدَاءِ الْيَمِينِ فِي حَقِّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ (فَأَمَّا الصُّلْحُ الَّذِي هُوَ جَارٍ مَجْرَى الْبَيْعِ فَهُوَ مِنْ الضَّرْبِ الْأَوَّلِ) أَرَادَ بِالصُّلْحِ الَّذِي هُوَ جَارٍ مَجْرَى الْبَيْعِ الصُّلْحَ عَنْ إقْرَارٍ فِيمَا إذَا كَانَ عَنْ مَالٍ بِمَالٍ فَإِنَّهُ مُبَادَلَةُ مَالٍ بِمَالٍ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الْبَيْعِ، وَأَمَّا إذَا كَانَ الصُّلْحُ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ أَوْ كَانَ عَلَى بَعْضِ مَا يَدَّعِيهِ مِنْ الدَّيْنِ فَهُوَ مِنْ الضَّرْبِ الثَّانِي وَإِنْ كَانَ عَنْ إقْرَارٍ؛ لِأَنَّهُ إسْقَاطٌ مَحْضٌ فَكَانَ الْوَكِيلُ فِيهِ سَفِيرًا مَحْضًا كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْمُصَنِّفُ ﵀ فِي بَابِ التَّبَرُّعِ بِالصُّلْحِ وَالتَّوْكِيلُ مِنْ كِتَابِ الصُّلْحِ.
أَقُولُ: فَبِهَذَا ظَهَرَ أَنَّ مَا وَقَعَ هَاهُنَا فِي الشُّرُوحِ مِنْ تَفْسِيرِ الصُّلْحِ الَّذِي هُوَ جَارٍ مَجْرَى الْبَيْعِ بِالصُّلْحِ عَنْ إقْرَارٍ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ بِمَا ذَكَرْنَاهُ تَقْصِيرٌ فِي تَعْيِينِ الْمَرَامِ وَتَحْقِيقِ الْمَقَامِ، كَيْفَ وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ كَافِيًا هَاهُنَا لَمَا بَدَّلَ الْمُصَنِّفُ اللَّفْظَ الْيَسِيرَ بِاللَّفْظِ الْكَثِيرِ (وَالْوَكِيلُ بِالْهِبَةِ وَالتَّصَدُّقِ وَالْإِعَارَةِ وَالْإِيدَاعِ وَالرَّهْنِ وَالْإِقْرَاضِ سَفِيرٌ أَيْضًا) وَتَفْسِيرُ هَذَا مَا ذَكَرَهُ فِي الْإِيضَاحِ حَيْثُ قَالَ: وَلَوْ وَكَّلَ وَكِيلًا بِأَنْ يَهَبَ عَبْدَهُ لِفُلَانٍ أَوْ يَتَصَدَّقَ بِهِ عَلَيْهِ أَوْ يُعِيرَهُ إيَّاهُ أَوْ يُودِعَهُ أَوْ يُرْهِنَهُ فَقَبَضَ الْوَكِيلُ وَفَعَلَ مَا أَمَرَهُ فَهُوَ جَائِزٌ عَلَى الْمُوَكِّلِ، وَلَيْسَ لِلْوَكِيلِ الْمُطَالَبَةُ بِرَدِّ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ إلَى يَدِهِ، وَلَا أَنْ يَقْبِضَ الْوَدِيعَةَ وَالْعَارِيَّةَ وَلَا الرَّهْنَ وَلَا الْقَرْضَ مِمَّنْ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ أَحْكَامَ هَذِهِ الْعُقُودِ إنَّمَا تَثْبُتُ بِالْقَبْضِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْوَكِيلُ فِيهِ أَصِيلًا؛ لِأَنَّهُ أَجْنَبِيٌّ عَنْ الْمَحَلِّ الَّذِي يُلَاقِيهِ الْقَبْضُ فَكَانَ سَفِيرًا وَمُعَبِّرًا عَنْ الْمَالِكِ انْتَهَى. وَأَشَارَ الْمُصَنِّفُ ﵀ إلَى التَّعْلِيلِ الْمَذْكُورِ فِيهِ أَيْضًا بِقَوْلِهِ (لِأَنَّ الْحُكْمَ فِيهَا) أَيْ فِي الْعُقُودِ الْمَذْكُورَةِ (يَثْبُتُ بِالْقَبْضِ) أَيْ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute