وَصُورَةُ الِاسْتِيلَادِ أَنْ تَقُولَ الْجَارِيَةُ أَنَا أُمُّ وَلَدٍ لِمَوْلَايَ وَهَذَا ابْنِي مِنْهُ وَأَنْكَرَ الْمَوْلَى، لِأَنَّهُ لَوْ ادَّعَى الْمَوْلَى ثَبَتَ الِاسْتِيلَادُ بِإِقْرَارِهِ وَلَا يُلْتَفَتُ إلَى إنْكَارِهَا. لَهُمَا أَنَّ النُّكُولَ إقْرَارٌ لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ كَاذِبًا فِي الْإِنْكَارِ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ، إذْ لَوْلَا ذَلِكَ لَأَقْدَمَ عَلَى الْيَمِينِ الصَّادِقَةِ إقَامَةً لِلْوَاجِبِ فَكَانَ إقْرَارًا أَوْ بَدَلًا عَنْهُ، وَالْإِقْرَارُ يَجْرِي فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ لَكِنَّهُ إقْرَارٌ فِيهِ شُبْهَةٌ، وَالْحُدُودُ تَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ، وَاللِّعَانُ فِي مَعْنَى الْحَدِّ
فِي الْوَاقِعَاتِ أَيْضًا. وَكَيْفِيَّةُ الِاسْتِحْلَافِ عِنْدَهُمَا أَنْ يَحْلِفَ عَلَى الْحَاصِلِ إنْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ هِيَ الْمُدَّعِيَةُ بِاَللَّهِ مَا هَذِهِ امْرَأَتُك بِهَذَا النِّكَاحِ الَّذِي ادَّعَتْهُ، وَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ هُوَ الْمُدَّعِي تَحْلِفُ بِاَللَّهِ مَا هَذَا زَوْجُك عَلَى مَا ادَّعَى. وَالْمُتَأَخِّرُونَ مِنْ مَشَايِخِنَا عَلَى أَنَّهُ يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَنْظُرَ فِي حَالِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَإِنْ رَآهُ مُتَعَنِّتًا يُحَلِّفُهُ وَيَأْخُذُ بِقَوْلِهِمَا، وَإِنْ رَآهُ مَظْلُومًا لَا يُحَلِّفُهُ أَخْذًا بِقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ كَمَا اخْتَارَهُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ فِي التَّوْكِيلِ بِالْخُصُومَةِ بِغَيْرِ مَحْضَرٍ مِنْ الْخَصْمِ وَبِغَيْرِ رِضَاهُ أَنَّ الْقَاضِيَ إنْ عَلِمَ بِالْمُدَّعِي التَّعَنُّتَ فِي إبَاءِ التَّوْكِيلِ لَا يُمَكِّنُهُ مِنْ ذَلِكَ وَيَقْبَلُ التَّوْكِيلَ بِغَيْرِ مَحْضَرٍ مِنْ الْخَصْمِ، وَإِنْ عَلِمَ بِالْمُوَكِّلِ الْقَصْدَ إلَى الْإِضْرَارِ بِالْمُدَّعِي فِي التَّوْكِيلِ لَا يَقْبَلُ ذَلِكَ إلَّا بِرِضَا الْخَصْمِ حَتَّى يَكُونَ دَافِعًا لِلضَّرَرِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ، كَذَا فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لِقَاضِي خَانْ وَالْمَحْبُوبِيِّ.
وَفِي الْحُدُودِ: لَا يُسْتَحْلَفُ بِالْإِجْمَاعِ إلَّا إذَا تَضَمَّنَ حَقًّا بِأَنْ عَلَّقَ عِتْقَ عَبْدِهِ بِالزِّنَا وَقَالَ إنْ زَنَيْت فَأَنْتَ حُرٌّ فَادَّعَى الْعَبْدُ أَنَّهُ قَدْ زَنَى وَلَا بَيِّنَةَ لَهُ عَلَيْهِ يُسْتَحْلَفُ الْمَوْلَى، حَتَّى إذَا نَكَلَ ثَبَتَ الْعِتْقُ دُونَ الزِّنَا، كَذَا ذَكَرَهُ الصَّدْرُ الشَّهِيدُ فِي أَدَبِ الْقَاضِي، إلَى هُنَا لَفْظُ النِّهَايَةِ (وَصُورَةُ الِاسْتِيلَادِ أَنْ تَقُولَ الْجَارِيَةُ أَنَا أُمُّ وَلَدٍ لِمَوْلَايَ وَهَذَا ابْنِي مِنْهُ وَأَنْكَرَ الْمَوْلَى؛ لِأَنَّهُ لَوْ ادَّعَى الْمَوْلَى يَثْبُتُ الِاسْتِيلَادُ بِإِقْرَارِهِ وَلَا يُلْتَفَتُ إلَى إنْكَارِهَا) وَإِنَّمَا خَصَّ صُورَةَ الِاسْتِيلَادِ بِالذِّكْرِ مِنْ بَيْنِ أَخَوَاتِهِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُ لَا مَسَاغَ لِلدَّعْوَى فِي هَذِهِ الصُّورَةِ إلَّا مِنْ جَانِبٍ وَاحِدٍ، بِخِلَافِ أَخَوَاتِهِ الْخِلَافِيَّةِ فَإِنَّ لِلدَّعْوَى فِيهَا مَسَاغًا مِنْ الْجَانِبَيْنِ كَمَا صَوَّرْنَاهُ فِيمَا مَرَّ (لَهُمَا) أَيْ لِأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ (أَنَّ النُّكُولَ إقْرَارٌ لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ كَاذِبًا فِي الْإِنْكَارِ) أَيْ فِي إنْكَارِهِ السَّابِقِ (عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ) يَعْنِي قَوْلَهُ إذْ لَوْلَا ذَلِكَ لَأَقْدَمَ عَلَى الْيَمِينِ إقَامَةً لِلْوَاجِبِ وَدَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْ نَفْسِهِ، وَفِيهَا تَحْصِيلُ الثَّوَابِ بِإِجْرَاءِ ذِكْرِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى لِسَانِهِ تَعْظِيمًا لَهُ وَدَفْعُ تُهْمَةِ الْكَذِبِ عَنْ نَفْسِهِ وَإِبْقَاءُ مَالِهِ عَلَى مِلْكِهِ، فَلَوْلَا هُوَ كَاذِبٌ فِي يَمِينِهِ لَمَا تَرَكَ هَذِهِ الْفَوَائِدَ الثَّلَاثَ، كَذَا فِي الْعِنَايَةِ وَغَيْرِهَا (فَكَانَ) أَيْ النُّكُولُ (إقْرَارًا أَوْ بَدَلًا عَنْهُ) بِفَتْحِ الدَّالِ: أَيْ خَلَفًا عَنْ الْإِقْرَارِ: يَعْنِي أَنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَ الْإِقْرَارِ.
أَقُولُ: لَا يَخْفَى عَلَى ذِي فِطْرَةٍ سَلِيمَةٍ رَكَاكَةُ تَحْرِيرِ الْمُصَنِّفِ هَاهُنَا، عَيَّنَ أَوَّلًا كَوْنَ النُّكُولِ إقْرَارًا، ثُمَّ فَرَّعَ عَلَى دَلِيلِهِ كَوْنَهُ إقْرَارًا أَوْ بَدَلًا عَنْهُ بِالتَّرْدِيدِ، وَلَا يَدْفَعُهَا مَا ذُكِرَ فِي النِّهَايَةِ وَالْكِفَايَةِ مِنْ أَنَّهُ جَازَ أَنْ يَكُونَ هَذَا التَّرْدِيدُ لِدَفْعِ بَعْضِ الشُّبُهَاتِ الَّتِي تَرِدُ عَلَيْهِمَا فِي الْقَوْلِ بِالْإِقْرَارِ انْتَهَى. إذْ كَانَ يُمْكِنُ دَفْعُ ذَلِكَ بِذِكْرِ التَّرْدِيدِ أَوَّلًا أَيْضًا أَوْ بِالِاكْتِفَاءِ بِذِكْرِ كَوْنِهِ بَدَلًا عَنْهُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ مَعًا، بَلْ كَانَ هَذَا: أَيْ الِاكْتِفَاءُ بِهِ هُوَ الَّذِي يَنْبَغِي كَمَا سَتَقِفُ عَلَيْهِ (وَالْإِقْرَارُ يَجْرِي فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ) هَذَا كُبْرَى دَلِيلِهِمَا عَلَى جَوَازِ الِاسْتِحْلَافِ فِي الْأَشْيَاءِ الْمَذْكُورَةِ، تَقْرِيرُهُ أَنَّ النُّكُولَ إقْرَارٌ وَالْإِقْرَارُ يَجْرِي فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ يَنْتُجُ أَنَّ النُّكُولَ يَجْرِي فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ، فَإِذَا جَرَى النُّكُولُ فِيهَا جَرَى الِاسْتِحْلَافُ فِيهَا أَيْضًا لِحُصُولِ فَائِدَةِ الِاسْتِحْلَافِ وَهِيَ الْقَضَاءُ بِالنُّكُولِ كَمَا فِي سَائِرِ مَوَاضِعِ الِاسْتِحْلَافِ (لَكِنَّهُ) أَيْ لَكِنَّ النُّكُولَ (إقْرَارٌ فِيهِ شُبْهَةٌ) لِأَنَّهُ فِي نَفْسِهِ سُكُوتٌ (وَالْحُدُودُ تَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ) فَلَا يَجْرِي النُّكُولُ فِيهَا (وَاللِّعَانُ فِي مَعْنَى الْحَدِّ) لِأَنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَ حَدِّ الْقَذْفِ فِي حَقِّ الزَّوْجِ، حَتَّى أَنَّ كُلَّ قَذْفٍ يُوجِبُ حَدَّ الْقَذْفِ عَلَى الْأَجْنَبِيِّ إذَا قَذَفَ الْأَجْنَبِيَّاتِ فَكَذَلِكَ يُوجِبُ اللِّعَانَ عَلَى الزَّوْجِ، وَقَائِمٌ مَقَامَ حَدِّ الزِّنَا فِي حَقِّ الْمَرْأَةِ كَمَا تَقَرَّرَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute