وَلِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ بَذْلٌ لِأَنَّ مَعَهُ لَا تَبْقَى الْيَمِينُ وَاجِبَةً لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ وَإِنْزَالُهُ بَاذِلًا أَوْلَى كَيْ لَا يَصِيرَ كَاذِبًا فِي الْإِنْكَارِ
مِنْهَا بَيَانُ تَخَلُّفِ الْحُكْمِ وَهُوَ كَوْنُ النُّكُولِ إقْرَارًا فِي صُورَةٍ جُزْئِيَّةٍ عَنْ الدَّلِيلِ الْمَذْكُورِ مِنْ قِبَلِ الْإِمَامَيْنِ، وَهُوَ صَرِيحُ نَقْضٍ إجْمَالِيٍّ، وَلَا لُطْفَ لِلْحَمْلِ عَلَى الْمُعَارَضَةِ فِي شَيْءٍ مِنْهَا لِأَنَّ الْمُدَّعِيَ هَاهُنَا وَهُوَ كَوْنُ النُّكُولِ إقْرَارًا كُلِّيًّا، وَمَا ذُكِرَ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا صُورَةٌ جُزْئِيَّةٌ لَا تَدُلُّ عَلَى خِلَافِ الْمُدَّعِي بِالْكُلِّيَّةِ، وَإِنَّمَا غَرَّ ذَلِكَ الْبَعْضَ قَوْلُ السَّائِلِ فِي ذَيْلِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ تِلْكَ الْأَسْئِلَةِ، وَلَوْ كَانَ النُّكُولُ إقْرَارًا لَكَانَ جَوَابُ الْمَسْأَلَةِ خِلَافَ مَا ذُكِرَ، وَالْحَالُ أَنَّ الْمُرَادَ مُجَرَّدُ بَيَانِ تَخَلُّفِ الْحُكْمِ عَنْ الدَّلِيلِ لَا إقَامَةُ الدَّلِيلِ عَلَى خِلَافِ الْمُدَّعِي كَمَا لَا يَخْفَى.
وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ مُرَادَ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ بِالْمُدَّعِي هَاهُنَا قَوْلُهُمَا إنَّ النُّكُولَ إقْرَارُ الْمُسْتَدِلِّ عَلَيْهِ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ بِقَوْلِهِ لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ كَاذِبًا فِي الْإِنْكَارِ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ، فَإِذَا صَيَّرَ فِي الْجَوَابِ عَنْ النُّقُوضِ الْمَذْكُورَةِ إلَى كَوْنِ النُّكُولِ بَدَلًا عَنْ الْإِقْرَارِ لَا نَفْسَ الْإِقْرَارِ فَقَدْ غَيَّرَ ذَلِكَ الْمُدَّعِي قَطْعًا، وَكَوْنُ قَوْلِهِمَا إنَّ النُّكُولَ إقْرَارٌ مُقَدِّمَةَ الدَّلِيلِ بِالنَّظَرِ إلَى أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ وَهُوَ جَوَازُ الِاسْتِحْلَافِ عِنْدَهُمَا لَا يُنَافِي كَوْنَهُ مُدَّعِي بِالنَّظَرِ إلَى كَوْنِهِ مُسْتَدِلًّا عَلَيْهِ بِالدَّلِيلِ الْمُسْتَقِلِّ. وَالْعَجَبُ مِنْ ذَلِكَ الْقَائِلِ أَنَّهُ جَعَلَ الْأَسْئِلَةَ الْمَذْكُورَةَ مُعَارَضَاتٍ وَالْمُعَارَضَةُ إقَامَةُ الدَّلِيلِ عَلَى خِلَافِ مُدَّعِي الْخَصْمِ، وَهَذَا لَا يُتَصَوَّرُ إلَّا بِأَنْ يَكُونَ الْمُدَّعِي هَاهُنَا قَوْلُهُمَا إنَّ النُّكُولَ إقْرَارٌ، إذَا لَا مِسَاسَ لِتِلْكَ الْأَسْئِلَةِ بِأَصْلِ الْمَسْأَلَةِ كَمَا لَا يَخْفَى (وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ) أَيْ النُّكُولَ (بَذْلٌ) وَتَفْسِيرُ الْبَذْلِ عِنْدَهُ تَرْكُ الْمُنَازَعَةِ وَالْإِعْرَاضِ عَنْهَا لَا الْهِبَةُ وَالتَّمْلِيكُ، وَلِهَذَا قُلْنَا: إنَّ الرَّجُلَ إذَا ادَّعَى نِصْفَ الدَّارِ شَائِعًا فَأَنْكَرَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ يَقْضِي فِيهِ بِالنُّكُولِ، وَهِبَةُ نِصْفِ الدَّارِ شَائِعًا لَا تَصِحُّ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ نَقْلًا عَنْ الْفَوَائِدِ الظَّهِيرِيَّةِ (لِأَنَّ مَعَهُ) أَيْ مَعَ الْبَذْلِ (لَا تَبْقَى الْيَمِينُ وَاجِبَةً لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ بِهِ) أَيْ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ مِنْ الْيَمِينِ وَهُوَ قَطْعُ الْخُصُومَةِ بِالْبَذْلِ فَيَكُونُ ذَلِكَ بَاعِثًا عَلَى تَرْكِ الْإِقْدَامِ عَلَى الْيَمِينِ، هَذَا هُوَ الْعِلَّةُ الْمُجَوِّزَةُ لِكَوْنِ النُّكُولِ بَذْلًا، وَأَمَّا الْعِلَّةُ الْمُرَجِّحَةُ لِكَوْنِهِ بَذْلًا عَلَى كَوْنِهِ إقْرَارًا فَهِيَ مَا أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ (وَإِنْزَالُهُ بَاذِلًا أَوْلَى) أَيْ مِنْ إنْزَالِهِ مُقِرًّا (كَيْ لَا يَصِيرُ كَاذِبًا فِي الْإِنْكَارِ) أَيْ فِي إنْكَارِهِ السَّابِقِ: يَعْنِي لَوْ حَمَلْنَاهُ عَلَى الْإِقْرَارِ لَكَذَّبْنَاهُ فِي إنْكَارِهِ السَّابِقِ، وَلَوْ جَعَلْنَاهُ بَذْلًا لَقَطَعْنَا الْخُصُومَةَ بِلَا تَكْذِيبٍ، فَكَانَ هَذَا أَوْلَى صِيَانَةً لِلْمُسْلِمِ عَنْ أَنْ يُظَنَّ بِهِ الْكَذِبُ.
قِيلَ عَلَيْهِ لَوْ كَانَ النُّكُولُ بَذْلًا لَمَا ضَمِنَ شَيْئًا آخَرَ إذَا اسْتَحَقَّ مَا أَدَّى بِقَضَاءٍ، كَمَا لَوْ صَالَحَ عَنْ إنْكَارٍ وَاسْتَحَقَّ بَدَلَ الصُّلْحِ فَإِنَّهُ لَا يَضْمَنُ شَيْئًا وَلَكِنَّ الْمُدَّعِيَ يَرْجِعُ إلَى الدَّعْوَى. وَأُجِيبَ عَنْهُ بِأَنَّ بَذْلَ الصُّلْحِ وَجَبَ بِالْعَقْدِ، فَإِذَا اُسْتُحِقَّ بَطَلَ الْعَقْدُ فَعَادَ الْحُكْمُ إلَى الْأَصْلِ وَهُوَ الدَّعْوَى، وَأَمَّا هَاهُنَا فَالْمُدَّعِي يَقُولُ أَنَا آخُذُ هَذَا بِإِزَاءِ مَا وَجَبَ لِي فِي ذِمَّتِهِ بِالْقَضَاءِ، فَإِذَا اُسْتُحِقَّ رَجَعْت بِمَا فِي الذِّمَّةِ. وَقِيلَ عَلَيْهِ إنَّ الْحُكْمَ وَاجِبٌ عَلَى الْحَاكِمِ بِالنُّكُولِ، وَالْبَذْلُ لَا يَجِبُ بِهِ الْحُكْمُ عَلَيْهِ فَلَمْ يَكُنْ النُّكُولُ بَذْلًا. وَأُجِيبَ عَنْهُ بِأَنَّ الْحُكْمَ لَا يَجِبُ بِالْبَذْلِ الصَّرِيحِ. وَأَمَّا مَا كَانَ بَذْلًا بِحُكْمِ الشَّرْعِ كَالنُّكُولِ فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ لَا يَجِبُ بِهِ بَلْ هُوَ مُوجِبٌ لَهُ قَطْعًا لِلْمُنَازَعَةِ. وَقِيلَ عَلَيْهِ يَقْضِي بِالْقِصَاصِ فِي الْأَطْرَافِ بِالنُّكُولِ، وَلَوْ كَانَ بَذْلًا لَمَا قَضَى بِهِ لِأَنَّ الْبَذْلَ لَا يَعْمَلُ فِيهَا.
وَأُجِيبَ عَنْهُ بِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْبَذْلَ فِيهَا غَيْرُ عَامِلٍ بَلْ هُوَ عَامِلٌ إذَا كَانَ مُفِيدًا نَحْوُ أَنْ يَقُولَ اقْطَعْ يَدَيَّ وَبِهَا أَكَلَةٌ حَيْثُ لَمْ يَأْثَمْ بِقَطْعِهَا، وَفِيمَا نَحْنُ فِيهِ النُّكُولُ مُفِيدٌ لِأَنَّهُ يُحْتَرَزُ بِهِ عَنْ الْيَمِينِ وَلَهُ وِلَايَةُ الِاحْتِرَازِ عَنْ الْيَمِينِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute