وَالْبَذْلُ لَا يَجْرِي فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ. وَفَائِدَةُ الِاسْتِحْلَافِ الْقَضَاءُ بِالنُّكُولِ فَلَا يُسْتَحْلَفُ، إلَّا أَنَّ هَذَا بَذْلٌ لِدَفْعِ الْخُصُومَةِ فَيَمْلِكُهُ الْمُكَاتَبُ وَالْعَبْدُ الْمَأْذُونُ بِمَنْزِلَةِ الضِّيَافَةِ الْيَسِيرَةِ،
هَذِهِ خُلَاصَةُ مَا فِي الشُّرُوحِ هَاهُنَا مِنْ الْأَسْئِلَةِ وَالْأَجْوِبَةِ (وَالْبَذْلُ لَا يَجْرِي فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ) فَإِنَّهُ لَوْ قَالَتْ مَثَلًا لَا نِكَاحَ بَيْنِي وَبَيْنَك وَلَكِنِّي بَذَلْت لَك نَفْسِي لَمْ يَصِحَّ بَذْلُهَا؛ وَكَذَا لَوْ قَالَ أَنَا حُرُّ الْأَصْلِ وَلَكِنْ هَذَا يُؤْذِينِي بِالدَّعْوَى فَبَذَلْت لَهُ نَفْسِي لِيَسْتَرِقَّنِي، أَوْ قَالَ أَنَا ابْنُ فُلَانٍ وَلَكِنَّ هَذَا يُؤْذِينِي بِالدَّعْوَى فَأَبَحْت لَهُ أَنْ يَدَّعِيَ نَسَبِي لَمْ يَصِحَّ بَذْلُهُ، بِخِلَافِ الْأَمْوَالِ فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ هَذَا الْمَالُ لَيْسَ لَهُ وَلَكِنِّي أَبَحْته وَبَذَلْته لَهُ لِأَتَخَلَّصَ مِنْ خُصُومَتِهِ صَحَّ بَذْلُهُ (وَفَائِدَةُ الِاسْتِحْلَافِ الْقَضَاءُ بِالنُّكُولِ) وَلَمَّا لَمْ يَجُزْ الْبَذْلُ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ لَمْ يُتَصَوَّرْ فِيهَا الْقَضَاءُ بِالنُّكُولِ الَّذِي هُوَ الْبَذْلُ (فَلَا يُسْتَحْلَفُ) فِيهَا لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ.
قَالَ صَاحِبُ الْكَافِي: فَإِنْ قِيلَ: هَذَا التَّعْلِيلُ مُخَالِفٌ لِلْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ وَهُوَ قَوْلُهُ ﵊ «وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ» قُلْنَا: خَصَّ مِنْهُ الْحُدُودَ وَاللِّعَانَ، فَجَازَ تَخْصِيصُ هَذِهِ الصُّوَرِ بِالْقِيَاسِ انْتَهَى. وَقَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: لَا يُقَالُ أَبُو حَنِيفَةَ ﵀ تَرَكَ الْحَدِيثَ الْمَشْهُورَ وَهُوَ قَوْلُهُ ﷺ «الْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ» بِالرَّأْيِ، وَهُوَ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ ﵀ لَمْ يَنْفِ وُجُوبَ الْيَمِينِ فِيهَا، لَكِنَّهُ يَقُولُ: لَمَّا لَمْ تُفِدْ الْيَمِينُ فَائِدَتَهَا وَهُوَ الْقَضَاءُ بِالنُّكُولِ لِكَوْنِهِ بَذْلًا لَا يَجْرِي فِيهَا سَقَطَتْ كَسُقُوطِ الْوُجُوبِ عَنْ مَعْذُورٍ لَا يَتَحَقَّقُ مِنْهُ أَدَاءُ الصَّلَاةِ لِفَوَاتِ الْمَقْصُودِ انْتَهَى.
وَقَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ: وَأَجَابَ الْعَلَّامَةُ الْكَاكِيُّ بِأَنَّهُ خَصَّ مِنْ الْحَدِيثِ الْحُدُودَ بِالْإِجْمَاعِ، فَجَازَ تَخْصِيصُ هَذِهِ الصُّوَرِ بِالْقِيَاسِ، وَلَمْ يَذْكُرْهُ الشَّارِحُ: يَعْنِي الْعِنَايَةَ لِأَنَّ الْمُخَصِّصَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُقَارِنًا وَالْإِجْمَاعُ لَيْسَ كَذَلِكَ انْتَهَى. أَقُولُ: مَدَارُ كَلَامِهِ عَلَى مَا فَهِمَهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُرَادُ الْعَلَّامَةِ الْكَاكِيِّ أَنَّ تَخْصِيصَ الْحُدُودِ مِنْ الْحَدِيثِ هُوَ إجْمَاعُ الْأُمَّةِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ مُرَادَهُ بِالْإِجْمَاعِ اتِّفَاقُ الْأَئِمَّةِ، فَالْمَعْنَى كَوْنُ الْحَدِيثِ مِمَّا خُصَّ مِنْهُ الْبَعْضُ وَهُوَ الْحُدُودُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَلَا يُنَافِي هَذَا كَوْنَ الْمُخَصِّصِ نَصًّا وَمُقَارِنًا، عَلَى أَنَّ قَاعِدَةَ الْأُصُولِ هِيَ أَنَّهُ إذَا لَمْ يُعْلَمْ الْمُقَارَنَةُ وَعَدَمُهَا يُحْمَلُ عَلَى الْمُقَارَنَةِ فَيَتِمُّ الْمَطْلُوبُ، وَيُؤَيِّدُ كَوْنَ مُرَادِهِ بِالْإِجْمَاعِ اتِّفَاقَ الْأَئِمَّةِ فِي كَوْنِ الْحَدِيثِ مَخْصُوصًا أَنَّ الْجَوَابَ الَّذِي ذَكَرَهُ وَقَعَ فِي الْكَافِي وَالْكِفَايَةِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ قَيْدِ الْإِجْمَاعِ فَتَأَمَّلْ (إلَّا أَنَّ هَذَا بَذْلٌ لِدَفْعِ الْخُصُومَةِ فَيَمْلِكُهُ الْمُكَاتَبُ وَالْعَبْدُ الْمَأْذُونُ بِمَنْزِلَةِ الضِّيَافَةِ الْيَسِيرَةِ) هَذَا جَوَابُ سُؤَالٍ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute