وَإِنَّمَا يُسْتَحْلَفُ فِي النَّسَبِ الْمُجَرَّدِ عِنْدَهُمَا إذَا كَانَ يَثْبُتُ بِإِقْرَارِهِ كَالْأَبِ وَالِابْنِ فِي حَقِّ الرَّجُلِ وَالْأَبِ فِي حَقِّ الْمَرْأَةِ، لِأَنَّ فِي دَعْوَاهَا الِابْنَ تَحْمِيلَ النَّسَبِ عَلَى الْغَيْرِ وَالْمَوْلَى وَالزَّوْجِ فِي حَقِّهِمَا.
قَالَ (وَمَنْ ادَّعَى قِصَاصًا عَلَى غَيْرِهِ فَجَحَدَهُ اُسْتُحْلِفَ) بِالْإِجْمَاعِ (ثُمَّ إنْ نَكَلَ عَنْ الْيَمِينِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ يَلْزَمُهُ الْقِصَاصُ، وَإِنْ نَكَلَ فِي النَّفْسِ حُبِسَ حَتَّى يَحْلِفَ أَوْ يُقِرَّ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ﵀، وَقَالَا: لَزِمَهُ الْأَرْشُ فِيهِمَا لِأَنَّ النُّكُولَ إقْرَارٌ فِيهِ شُبْهَةٌ عِنْدَهُمَا فَلَا يَثْبُتُ بِهِ الْقِصَاصُ وَيَجِبُ بِهِ الْمَالُ، خُصُوصًا إذَا كَانَ امْتِنَاعُ الْقِصَاصِ لِمَعْنًى مِنْ جِهَةِ مَنْ عَلَيْهِ
الْمَذْكُورَةُ تَعُمُّ الصُّورَتَيْنِ مَعًا كَمَا بَيَّنَّاهُ مِنْ قَبْلُ، فَكَانَ هَذَا التَّعْلِيلُ أَيْضًا قَاصِرًا عَلَى إفَادَةِ كُلِّيَّةِ الْمُدَّعِي.
وَبِالْجُمْلَةِ لَمْ يَظْهَرْ لِقَوْلِ الْمُصَنِّفِ (لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هَذِهِ الْحُقُوقُ) عِلَّةٌ وَاضِحَةٌ شَامِلَةٌ لِجَمِيعِ صُوَرِ تِلْكَ الْمَسَائِلِ الْعَامَّةِ فَكَانَ هَذَا هُوَ السِّرُّ فِي أَنَّ صَاحِبَ الْكَافِي لَمْ يَذْكُرْ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ هَذَا أَصْلًا مَعَ أَنَّ عَادَتَهُ اقْتِفَاءُ أَثَرِ الْمُصَنِّفِ فِي أَمْثَالِهِ، وَأَنَّ أَكْثَرَ الشُّرَّاحِ لَمْ يَتَعَرَّضُوا لِشَرْحِهِ وَبَيَانِهِ بِالْكُلِّيَّةِ (وَإِنَّمَا يُسْتَحْلَفُ فِي الْمُجَرَّدِ) قَيَّدَ بِهِ احْتِرَازًا عَمَّا هُوَ مَقْرُونٌ بِدَعْوَى حَقٍّ آخَرَ كَمَا مَرَّ آنِفًا (عِنْدَهُمَا) أَيْ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ (إذَا كَانَ يَثْبُتُ بِإِقْرَارِهِ) أَيْ إذَا كَانَ يَثْبُتُ النَّسَبُ بِمُجَرَّدِ إقْرَارِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَإِنَّ النُّكُولَ عِنْدَهُمَا إقْرَارٌ فَكُلُّ نَسُبَّ لَوْ أَقَرَّ بِهِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ثَبَتَ يَثْبُتُ بِالنُّكُولِ أَيْضًا (كَالْأَبِ وَالِابْنِ فِي حَقِّ الرَّجُلِ) فَإِنَّهُ إذَا أَقَرَّ بِالْأَبِ وَالِابْنِ يَصِحُّ إقْرَارُهُ وَيَثْبُتُ نَسَبُ الْمُقَرِّ لَهُ مِنْهُ بِمُجَرَّدِ إقْرَارِهِ (وَالْأَبِ فِي حَقِّ الْمَرْأَةِ) فَإِنَّهَا إذَا أَقَرَّتْ بِالْأَبِ يَصِحُّ إقْرَارُهَا وَيَثْبُتُ نَسَبُ الْمُقَرِّ لَهُ مِنْهَا بِمُجَرَّدِ إقْرَارِهَا، وَأَمَّا لَوْ أَقَرَّتْ بِالِابْنِ فَلَا يَصِحُّ إقْرَارُهَا وَلَا يَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْهَا (لِأَنَّ فِي دَعْوَاهَا الِابْنَ) أَيْ فِي ادِّعَائِهَا الِابْنَ: أَيْ فِي إقْرَارِهَا بِهِ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ وَغَايَةِ الْبَيَانِ تَأَمَّلْ (تَحْمِيلَ النَّسَبِ عَلَى الْغَيْرِ) وَهُوَ لَا يَجُوزُ (وَالْمَوْلَى) أَيْ وَكَالْوَلِيِّ: يَعْنِي السَّيِّدَ (وَالزَّوْجِ فِي حَقِّهِمَا) أَيْ فِي حَقِّ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ، وَهَذَا الْقَيْدُ: أَعْنِي قَوْلَهُ فِي حَقِّهِمَا مُتَعَلِّقٌ بِالْمَوْلَى وَالزَّوْجِ جَمِيعًا، فَإِنَّ إقْرَارَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ بِالْمَوْلَى وَالزَّوْجِ يَصِحُّ.
وَحَاصِلُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ هَاهُنَا أَنَّ إقْرَارَ الرَّجُلِ يَصِحُّ بِأَرْبَعَةٍ: بِالْأَبِ وَالِابْنِ وَالْمَوْلَى وَالزَّوْجَةِ، وَإِقْرَارُ الْمَرْأَةِ يَصِحُّ بِثَلَاثَةٍ: بِالْأَبِ وَالْمَوْلَى وَالزَّوْجِ، وَلَا يَصِحُّ بِالْوَلَدِ لِأَنَّ فِيهِ تَحْمِيلَ النَّسَبِ عَلَى الْغَيْرِ. وَكَانَ أَصْلُ الْمَسْأَلَةِ فِي مَحَلِّهَا أَنَّ إقْرَارَ الرَّجُلِ يَصِحُّ بِخَمْسَةٍ: بِالْوَالِدَيْنِ وَالْوَلَدِ وَالزَّوْجَةِ وَالْمَوْلَى. وَإِقْرَارُ الْمَرْأَةِ يَصِحُّ بِأَرْبَعَةٍ: بِالْوَالِدَيْنِ وَالزَّوْجِ وَالْمَوْلَى، وَلَا يَصِحُّ بِالْوَلَدِ لِمَا مَرَّ، فَكَأَنَّ الْمُصَنِّفَ اكْتَفَى بِذِكْرِ الْأَبِ عَنْ ذِكْرِ الْأُمِّ لِظُهُورِ اشْتِرَاكِهِمَا فِي الْحُكْمِ الْمَذْكُورِ.
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ خُوَاهَرْ زَادَهْ فِي مَبْسُوطِهِ: الْأَصْلُ فِي هَذَا الْبَابِ أَنَّ الْمُدَّعَى قِبَلَهُ النَّسَبُ إذَا أَنْكَرَ هَلْ يُسْتَحْلَفُ إنْ كَانَ بِحَيْثُ لَوْ أَقَرَّ بِهِ لَا يَصِحُّ إقْرَارُهُ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ لَا يُسْتَحْلَفُ عِنْدَهُمْ جَمِيعًا لِأَنَّ الْيَمِينَ لَا تُفِيدُ، فَإِنَّ فَائِدَةَ الْيَمِينِ النُّكُولُ حَتَّى يُجْعَلَ النُّكُولُ بَذْلًا أَوْ إقْرَارًا فَيُقْضَى عَلَيْهِ، فَإِذَا كَانَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِ لَوْ أَقَرَّ فَإِنَّهُ لَا يُسْتَحْلَفُ عِنْدَهُمْ جَمِيعًا، وَإِنْ كَانَ الْمُدَّعَى قِبَلَهُ بِحَيْثُ لَوْ أَقَرَّ لَزِمَهُ مَا أَقَرَّ بِهِ، فَإِذَا أَنْكَرَ هَلْ يُسْتَحْلَفُ عَلَى ذَلِكَ؟ فَالْمَسْأَلَةُ عَلَى الِاخْتِلَافِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ﵀ لَا يُسْتَحْلَفُ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ يُسْتَحْلَفُ، فَإِنْ حَلَفَ بَرِئَ، وَإِنْ نَكَلَ عَنْ الْيَمِينِ لَزِمَهُ الدَّعْوَى، فَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ تُخَرَّجُ مَسَائِلُ الْبَابِ انْتَهَى.
(قَالَ) أَيْ الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ (وَمَنْ ادَّعَى قِصَاصًا عَلَى غَيْرِهِ فَجَحَدَهُ) وَلَيْسَ لِلْمُدَّعِي بَيِّنَةٌ (اُسْتُحْلِفَ) الْمُدَّعَى عَلَيْهِ (بِالْإِجْمَاعِ) سَوَاءٌ كَانَتْ الدَّعْوَى فِي النَّفْسِ بِهَا أَوْ فِيمَا دُونَهَا، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مَذْكُورَةٌ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَيْضًا فِي كِتَابِ الْقَضَاءِ (ثُمَّ إنْ نَكَلَ عَنْ الْيَمِينِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ لَزِمَهُ الْقِصَاصُ، وَإِنْ نَكَلَ فِي النَّفْسِ حُبِسَ حَتَّى يَحْلِفَ أَوْ يُقِرَّ، وَهَذَا) أَيْ الْحُكْمُ الْمَذْكُورُ (عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَا: لَزِمَهُ الْأَرْشُ فِيهِمَا) أَيْ فِي النَّفْسِ وَفِيمَا دُونَهَا (لِأَنَّ النُّكُولَ إقْرَارٌ فِيهِ شُبْهَةٌ عِنْدَهُمَا) لِأَنَّهُ إنْ امْتَنَعَ عَنْ الْيَمِينِ تَوَرُّعًا عَنْ الْيَمِينِ الصَّادِقَةِ لَا يَكُونُ إقْرَارًا بَلْ يَكُونُ بَذْلًا، كَذَا فِي الْكَافِي (فَلَا يَثْبُتُ بِهِ الْقِصَاصُ وَيَجِبُ بِهِ الْمَالُ خُصُوصًا) أَيْ خَاصَّةً (إذَا كَانَ امْتِنَاعُ الْقِصَاصِ لِمَعْنًى مِنْ جِهَةِ مَنْ عَلَيْهِ) أَيْ مِنْ جِهَةِ مَنْ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ، وَقَيَّدَ امْتِنَاعَ الْقِصَاصِ لِمَعْنًى
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute