قَالَ: (وَإِذَا كَانَ ثَوْبٌ فِي يَدِ رَجُلٍ وَطَرَفٌ مِنْهُ فِي يَدِ آخَرَ فَهُوَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ) لِأَنَّ الزِّيَادَةَ مِنْ جِنْسِ الْحُجَّةِ فَلَا تُوجِبُ زِيَادَةً فِي الِاسْتِحْقَاقِ.
وَفِيمَا نَحْنُ فِيهِ لَمْ تَتَحَقَّقْ يَدٌ لِوَاحِدٍ مِنْ الْمُدَّعِيَيْنِ عَلَى مَا تَقَرَّرَ آنِفًا فَلَمْ يُعْرَفْ كَوْنُ الْمُدَّعِي فِي أَيْدِيهِمَا فَلَمْ يُتَصَوَّرْ الْقَضَاءُ بَيْنَهُمَا قَضَاءَ التَّرْكِ أَيْضًا فَلَمْ يَتَيَسَّرْ التَّوْفِيقُ الْمَذْكُورُ، فَكَأَنَّ صَاحِبَ الْعِنَايَةِ تَنَبَّهَ لِهَذَا فَقَالَ: لِأَنَّ الْيَدَ عَلَى الْبِسَاطِ إمَّا بِالنَّقْلِ وَالتَّحْوِيلِ أَوْ بِكَوْنِهِ فِي بَيْتِهِ، وَالْجُلُوسُ عَلَيْهِ لَيْسَ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فَلَا يَكُونُ يَدًا عَلَيْهِ فَلَيْسَ بِأَيْدِيهِمَا وَلَا فِي يَدِ غَيْرِهِمَا وَهُمَا يَدَّعِيَانِهِ عَلَى السَّوَاءِ فَيُتْرَكُ فِي أَيْدِيهِمَا انْتَهَى.
حَيْثُ تَرَكَ ذِكْرَ الْقَضَاءِ بَيْنَهُمَا وَذَكَرَ التَّرْكَ فِي أَيْدِيهِمَا، لَكِنَّ هَذَا أَيْضًا لَا يَخْلُو عَنْ قُصُورٍ، لِأَنَّ اسْتِعْمَالَ التَّرْكِ فِي الْيَدِ يَقْتَضِي سَبْقَ تَحَقُّقِ الْيَدِ، وَهَاهُنَا لَيْسَ كَذَلِكَ كَمَا تَبَيَّنَ، فَحَقُّ الْكَلَامِ فِي هَذَا الْمَقَامِ أَنْ يُقَالَ فَيُجْعَلُ فِي أَيْدِيهِمَا: أَيْ يُوضَعُ فِيهَا لِعَدَمِ الْمُنَازِعِ لَهُمَا كَمَا ذَكَرْته فِيمَا قَبْلُ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يُطَابِقُ الشَّرْحُ الْمَشْرُوحَ، وَيُطَابِقُ الْمَقَامُ مَا يَظْهَرُ مِمَّا سَيَجِيءُ فِي مَسْأَلَةِ التَّنَازُعِ عَنْ الْحَائِطِ مِنْ الْفَرْقِ بَيْنَ مَحِلِّ الْقَضَاءِ بَيْنَهُمَا قَضَاءَ تَرْكٍ وَبَيْنَ مَحِلِّ الْجَعْلِ فِي أَيْدِيهِمَا بِلَا قَضَاءٍ.
وَأَيْضًا لَا تَبْقَى الْحَاجَةُ حِينَئِذٍ إلَى مَا ذَكَرَهُ صَاحِبَا النِّهَايَةِ وَالْعِنَايَةِ وَغَيْرُهُمَا مِنْ الْفَرْقِ بَيْنَ مَسْأَلَتِنَا هَذِهِ وَبَيْنَ مَسْأَلَةِ الدَّارِ إذَا تَنَازَعَا فِيهَا وَكَانَا قَاعِدَيْنِ فِيهَا حَيْثُ لَا يَقْضِي بِهَا بَيْنَهُمَا وَلَا إلَى مَا ارْتَكَبُوا فِي وَجْهِ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا مِنْ التَّكْلِيفِ عَلَى مَا لَا يَخْفَى عَلَى الْفَطِنِ النَّاظِرِ فِي كَلَامِهِمْ إذْ يَظْهَرُ حِينَئِذٍ أَنَّ حُكْمَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ هَاتَيْنِ الْمَسْأَلَتَيْنِ أَنْ لَا يَقْضِيَ بَيْنَ الْمُدَّعِيَيْنِ بِالْمُدَّعِي بِنَاءً عَلَى أَنْ لَيْسَ لِأَحَدٍ مِنْهُمَا يَدٌ عَلَيْهِ حَتَّى تَصِيرَ دَلِيلَ الْمِلْكِ وَسَبَبَ الْقَضَاءِ، بَلْ أَنْ يَجْعَلَ الْمُدَّعَى فِي أَيْدِيهِمَا بِلَا قَضَاءٍ لِعَدَمِ الْمُنَازِعِ لَهُمَا وَاسْتِوَائِهِمَا فِي الدَّعْوَى فَتَدَبَّرْ
(قَالَ) أَيْ مُحَمَّدٌ فِي كِتَابِ الْقَضَاءِ مِنْ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ (وَإِذَا كَانَ ثَوْبٌ فِي يَدِ رَجُلٍ وَطَرْفٌ مِنْهُ فِي يَدِ آخَرَ فَهُوَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ مِنْ جِنْسِ الْحُجَّةِ) فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُتَمَسِّكٌ بِالْيَدِ، إلَّا أَنَّ أَحَدَهُمَا أَكْثَرُ اسْتِمْسَاكًا (فَلَا تُوجِبُ زِيَادَةً فِي الِاسْتِحْقَاقِ) يَعْنِي أَنَّ مِثْلَ تِلْكَ الزِّيَادَةِ لَا تُوجِبُ الرُّجْحَانَ، إذْ لَا تَرْجِيحَ بِكَثْرَةِ الْعِلَلِ كَمَا مَرَّ، فَصَارَ كَمَا لَوْ تَنَازَعَا فِي بَعِيرٍ وَلِأَحَدِهِمَا عَلَيْهِ خَمْسُونَ مَنًّا وَلِلْآخَرِ مِائَةُ مَنٍّ كَانَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ وَلَا يُعْتَبَرُ التَّفَاوُتُ بِالْقِلَّةِ وَالْكَثْرَةِ، وَكَمَا لَوْ أَقَامَ أَحَدُهُمَا الِاثْنَيْنِ مِنْ الشُّهُودِ وَالْآخَرُ الْأَرْبَعَةَ، وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى الْفَرْقِ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ مَسْأَلَةِ الْقَمِيصِ الَّتِي ذُكِرَتْ مِنْ قَبْلُ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ هُنَاكَ لَيْسَتْ مِنْ جِنْسِ الْحُجَّةِ؛ فَإِنَّ الْحُجَّةَ هِيَ الْيَدُ وَالزِّيَادَةُ هِيَ الِاسْتِعْمَالُ، كَذَا فِي الْعِنَايَةِ.
ثُمَّ إنَّ هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ جَمِيعَ الثَّوْبِ لَوْ كَانَ فِي يَدِ رَجُلٍ وَادَّعَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ لَكِنَّ هَذَا إذَا عَرَفَ أَنَّ مِثْلَ هَذَا الثَّوْبِ كَانَ لَهُ فِي الْعَادَةِ وَإِلَّا فَلَا؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَ فِي الْمُحِيطِ وَالذَّخِيرَةِ: لَوْ خَرَجَ مِنْ دَارِ رَجُلٍ وَعَلَى عَاتِقِهِ مَتَاعٌ فَإِنْ كَانَ هَذَا الرَّجُلُ الَّذِي عَلَى عَاتِقِهِ هَذَا الْمَتَاعُ يُعْرَفُ بِبَيْعِهِ وَحَمْلِهِ فَهُوَ لَهُ، وَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ بِذَلِكَ فَهُوَ لِرَبِّ الدَّارِ. وَفِي الْقُدُورِيِّ: لَوْ أَنَّ خَيَّاطًا يَخِيطُ ثَوْبًا فِي دَارِ رَجُلٍ وَتَنَازَعَا فِي الثَّوْبِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ صَاحِبِ الدَّارِ.
وَفِي نَوَادِرِ ابْنِ سِمَاعَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ: رَجُلٌ دَخَلَ دَارَ رَجُلٍ فَوُجِدَ مَعَهُ مَالٌ فَقَالَ رَبُّ الدَّارِ هَذَا مَالِي أَخَذْته مِنْ مَنْزِلِي، قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: الْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الدَّارِ، وَلَا يُصَدَّقُ الدَّاخِلُ فِي شَيْءٍ مَا خَلَا ثِيَابَهُ الَّتِي عَلَيْهِ إنْ كَانَتْ الثِّيَابُ مِمَّا يَلْبَسُهُ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: إنْ كَانَ الدَّاخِلُ رَجُلًا يُعْرَفُ بِصِنَاعَةِ شَيْءٍ مِنْ الْأَشْيَاءِ بِأَنْ كَانَ مَثَلًا حَمَّالًا يَحْمِلُ الزَّيْتَ فَدَخَلَ وَعَلَى رَقَبَتِهِ زِقُّ زَيْتٍ أَوْ كَانَ مِمَّنْ يَبِيعُ وَيَطُوفُ بِالْمَتَاعِ فِي الْأَسْوَاقِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ، وَلَا أُصَدِّقُ قَوْلَ رَبِّ الدَّارِ عَلَيْهِ وَإِلَّا فَلَا.
فَأَثْبَتَ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ أَنَّ صَاحِبَ الْيَدِ إنَّمَا تُعْتَبَرُ يَدُهُ وَإِنْ كَانَتْ فِي الْمَنْقُولَاتِ عِنْدَ دَلَالَةِ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ لَهُ عَادَةٌ وَإِلَّا فَلَا، كَذَا فِي النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدَّارِيَةِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute