. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
يُرَادُ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ.
قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ بَعْدَ شَرْحِ الْمَقَامِ بِهَذَا الْمِنْوَالِ: وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: هَذَا مُخَالِفٌ لِلْكِتَابِ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى ﴿وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ﴾ وَدَلَائِلُ التَّوْحِيدِ وَإِنْ كَانَتْ ظَاهِرَةً لَكِنَّ الْإِلْفَ بِالدِّينِ مَانِعٌ قَوِيٌّ؛ أَلَا يَرَى إلَى كُفْرِ آبَائِهِ مَعَ ظُهُورِ دَلَائِلِ التَّوْحِيدِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْحَضَانَةِ أَنَّ الذِّمِّيَّةَ أَحَقُّ بِوَلَدِهَا الْمُسْلِمِ مَا لَمْ يَعْقِلْ الْأَدْيَانَ أَوْ يُخَافُ أَنْ يَأْلَفَ الْكُفْرَ لِلنَّظَرِ قَبْلَ ذَلِكَ وَاحْتِمَالُ الضَّرَرِ بَعْدَهُ انْتَهَى.
وَأَوْرَدَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ عَلَى قَوْلِهِ: وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: هَذَا مُخَالِفٌ لِلْكِتَابِ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى ﴿وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ﴾ بِأَنْ قَالَ فِيهِ بَحْثٌ. لِأَنَّا نَقُولُ: إنَّ الْإِيمَانَ لَيْسَ خَيْرًا مِنْ الْإِشْرَاكِ حَتَّى يُخَالَفَ، بَلْ نَقُولُ: كَمَا أَنَّ ذَلِكَ خَيْرٌ كَذَلِكَ شَرَفُ الْحُرِّيَّةِ خَيْرٌ مِنْ ذُلِّ الرِّقِّيَّةِ، وَكَسْبُ الْإِسْلَامِ فِي وُسْعِهِ دُونَ كَسْبِ الْحُرِّيَّةِ، فَالنَّظَرُ لِلصَّبِيِّ يَقْتَضِي الْحُكْمَ بِحُرِّيَّتِهِ انْتَهَى. أَقُولُ: لَيْسَ مُرَادُ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ أَنَّ هَذَا مُخَالِفٌ لِلْكِتَابِ بِمُجَرَّدِ دَلَالَةِ الْكِتَابِ عَلَى أَنَّ صِفَةَ الْإِيمَانِ خَيْرٌ مِنْ صِفَةِ الْإِشْرَاكِ حَتَّى يُفِيدَ مَا ذَكَرَهُ ذَلِكَ الْبَعْضُ، بَلْ مُرَادُهُ أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلْكِتَابِ لِدَلَالَتِهِ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ الْمُؤْمِنَ وَإِنْ كَانَ رَقِيقًا خَيْرٌ مِنْ الْمُشْرِكِ وَإِنْ كَانَ حُرًّا.
أَمَّا عَلَى كَوْنِ الْأَمَةِ وَالْعَبْدِ فِي قَوْله تَعَالَى ﴿وَلأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ﴾ وقَوْله تَعَالَى ﴿وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ﴾ مَحْمُولَيْنِ عَلَى ظَاهِرِهِمَا: أَعْنِي الرَّقِيقَ وَالرَّقِيقَةَ كَمَا يُشْعِرُ بِهِ قَوْلُ بَعْضِ كِبَارِ الْمُفَسِّرِينَ فِي تَفْسِيرِ ذَلِكَ الْمَقَامِ مِنْ النَّظْمِ الشَّرِيفِ: يَعْنِي أَنَّ الْمُؤْمِنَ وَلَوْ كَانَ مَعَهُ خَسَاسَةُ الرِّقِّ خَيْرٌ مِنْ الْكَافِرِ وَلَوْ كَانَ مَعَهُ شَرَفُ الْحُرِّيَّةِ، فَإِنَّ شَرَفَهَا لَا يُجْدِي نَفْعًا مَعَ الْكُفْرِ، وَدَنَاءَةُ الرِّقِّ لَا تَضُرُّ مَعَ شَرَفِ الْإِيمَانِ انْتَهَى، فَالْأَمْرُ ظَاهِرٌ.
وَأَمَّا عَلَى كَوْنِ الْأَمَةِ وَالْعَبْدِ فِيهِمَا بِمَعْنَى عَبْدِ اللَّهِ وَأَمَتِهِ عَامَّيْنِ لِلْحُرِّ وَالْحُرَّةِ أَيْضًا كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ صَاحِبُ الْكَشَّافِ وَأَضْرَا بِهِ حَيْثُ قَالُوا فِي تَفْسِيرِ الْآيَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ: أَيْ وَلَا امْرَأَةٌ مُؤْمِنَةٌ حُرَّةً كَانَتْ أَوْ مَمْلُوكَةً، وَكَذَلِكَ وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ لِأَنَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ عَبِيدُ اللَّهِ وَإِمَاؤُهُ انْتَهَى، فَلِأَنَّ الرَّقِيقَ الْمُؤْمِنَ يَنْدَرِجُ حِينَئِذٍ فِي عَبْدٍ مُؤْمِنٍ قَطْعًا فَيَكُونُ خَيْرًا مِنْ مُشْرِكٍ وَإِنْ كَانَ حُرًّا، وَدَلَالَةُ ظَاهِرِ الدَّلِيلِ الْمَذْكُورِ فِي مَسْأَلَتِنَا عَلَى أَنَّ الْكَافِرَ النَّائِلَ شَرَفَ الْحُرِّيَّةِ مَعَ كَوْنِ كَسْبِ الْإِيمَانِ فِي وُسْعِهِ خَيْرٌ مِنْ الرَّقِيقِ الْمَحْكُومِ بِإِسْلَامِهِ تَبَعًا مَعَ حِرْمَانِهِ عَنْ الْحُرِّيَّةِ فَتُفْهَمُ الْمُخَالَفَةُ لِلْكِتَابِ، وَهَذَا تَوْجِيهُ كَلَامِ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ عَلَى وَفْقِ مَرَامِهِ فَلَا يُتَوَجَّهُ عَلَيْهِ الْبَحْثُ الْمَذْكُورُ. ثُمَّ قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّ قَوْله تَعَالَى ﴿ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ﴾ يُوجِبُ دَعْوَةَ الْأَوْلَادِ لِآبَائِهِمْ، وَمُدَّعِي النَّسَبِ أَبٌ لِأَنَّ دَعْوَتَهُ لَا تَحْتَمِلُ النَّقْضَ فَتَعَارَضَتْ الْآيَتَانِ.
وَفِي الْأَحَادِيثِ الدَّالَّةِ عَلَى الْمَرْحَمَةِ بِالصِّبْيَانِ نَظَرًا لَهَا كَثْرَةٌ فَكَانَتْ أَقْوَى مِنْ الْمَانِعِ، وَكُفْرُ الْآبَاءِ جُحُودٌ وَالْأَصْلُ عَدَمُهُ؛ أَلَا يَرَى إلَى انْتِشَارِ الْإِسْلَامِ بَعْدَ الْكُفْرِ فِي الْآفَاقِ، وَبِتَرْكِ الْحَضَانَةِ لَا يَلْزَمُ رِقٌّ فَيُقْلَعُ مِنْهَا، بِخِلَافِ تَرْكِ النَّسَبِ هَاهُنَا فَإِنَّ الْمَصِيرَ بَعْدَهُ إلَى الرِّقِّ وَهُوَ ضَرَرٌ عَظِيمٌ لَا مَحَالَةَ انْتَهَى. أَقُولُ: فِيهِ بَحْثٌ لِأَنَّ كَوْنَ مُدَّعِي النَّسَبِ أَبًا أَوَّلُ الْمَسْأَلَةِ فَذِكْرُهُ هَاهُنَا مُؤَدٍّ إلَى الْمُصَادَرَةِ، وَقَوْلُهُ: لِأَنَّ دَعْوَتَهُ لَا تَحْتَمِلُ النَّقْضَ لَيْسَ بِشَيْءٍ، لِأَنَّ دَعْوَتَهُ إنَّمَا لَا تَحْتَمِلُ النَّقْضَ بَعْدَ أَنْ كَانَتْ مَقْبُولَةً بِحَسَبِ الشَّرْعِ رَاجِحَةً عَلَى دَعْوَى الْمُسْلِمِ وَهُوَ أَوَّلُ الْمَسْأَلَةِ أَيْضًا. وَقَوْلُهُ: وَفِي الْأَحَادِيثِ الدَّالَّةِ عَلَى الْمَرْحَمَةِ بِالصِّبْيَانِ نَظَرٌ لَهَا كَثْرَةٌ فَكَانَتْ أَقْوَى مِنْ الْمَانِعِ كَلَامٌ خَالٍ عَنْ التَّحْصِيلِ هَاهُنَا؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْمَرْحَمَةِ بِالصِّبْيَانِ وَالنَّظَرِ لَهُمْ مِمَّا لَا شُبْهَةَ فِيهِ لِأَحَدٍ، لَكِنَّ الْكَلَامَ فِي أَنَّ مَا يُؤَدِّي إلَى الْإِلْفِ بِالْكُفْرِ الْمَانِعِ عَنْ الْإِسْلَامِ مُنَافٍ لِلْمَرْحَمَةِ بِهِمْ وَلِلنَّظَرِ لَهُمْ فَلَا مَعْنَى لِقَوْلِهِ فَكَانَتْ أَقْوَى مِنْ الْمَانِعِ كَمَا لَا يَخْفَى. ثُمَّ إنَّ صَاحِبَ الْكِفَايَةِ وَتَاجَ الشَّرِيعَةِ قَالَا فِي شَرْحِ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ وَلَا تَعَارُضَ: أَيْ بَيْنَ دَعْوَى الرِّقِّ وَدَعْوَى النَّسَبِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِوَاحِدٍ وَابْنًا لِآخَرَ انْتَهَى.
فَكَأَنَّهُمَا أَخَذَا هَذَا الْمَعْنَى مِمَّا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْكَافِي حَيْثُ قَالَ: وَلَوْ كَانَ صَبِيٌّ فِي يَدِ مُسْلِمٍ وَنَصْرَانِيٍّ فَقَالَ النَّصْرَانِيُّ: هُوَ ابْنِي وَقَالَ الْمُسْلِمُ هُوَ عَبْدِي فَهُوَ حُرٌّ ابْنُ النَّصْرَانِيِّ إذَا ادَّعَيَا مَعًا، وَلَوْ كَانَتْ دَعْوَتُهُمَا الْبُنُوَّةَ فَالْمُسْلِمُ أَوْلَى. وَالْفَرْقُ أَنَّهُمَا فِي دَعْوَى النَّسَبِ اسْتَوَيَا فَتَرَجَّحَ الْمُسْلِمُ بِالْإِسْلَامِ لِأَنَّ الْقَضَاءَ بِالنَّسَبِ مِنْ الْمُسْلِمِ قَضَاءٌ بِإِسْلَامِهِ، وَفِيمَا نَحْنُ بِصَدَدِهِ لَا تَعَارُضَ بَيْنَ الدَّعْوَتَيْنِ: أَيْ دَعْوَى الرِّقِّ وَدَعْوَى النَّسَبِ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِوَاحِدٍ وَابْنًا لِآخَرَ حَتَّى يَثْبُتَ التَّرْجِيحُ بِالْإِسْلَامِ انْتَهَى. أَقُولُ: فِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ الَّذِي يَدَّعِيهِ النَّصْرَانِيُّ فِي مَسْأَلَتِنَا هُوَ بُنُوَّةُ الصَّبِيِّ لَهُ حُرًّا لَا مُطْلَقَ بُنُوَّتِهِ لَهُ، وَأَنَّ الَّذِي يُحْكَمُ بِهِ لَهُ هُوَ ثُبُوتُ نَسَبِ الصَّبِيِّ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute