لَكِنَّ الْمَحْجُورَ عَلَيْهِ لَا يَصِحُّ إقْرَارُهُ بِالْمَالِ وَيَصِحُّ بِالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ
أَوْ بِوَدِيعَةٍ أَوْ عَارِيَّةٍ أَوْ غَصْبٍ يَصِحُّ (لَكِنَّ الْمَحْجُورَ عَلَيْهِ لَا يَصِحُّ إقْرَارُهُ بِالْمَالِ وَيَصِحُّ بِالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: وَكَأَنَّ هَذَا اعْتِذَارٌ عَنْ قَوْلِهِ إذَا أَقَرَّ الْحُرُّ، وَلَعَلَّهُ لَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ لِأَنَّهُ قَالَ: إذَا أَقَرَّ الْحُرُّ بِحَقٍّ لَزِمَهُ وَهَذَا صَحِيحٌ، وَأَمَّا أَنَّ غَيْرَ الْحُرِّ إذَا أَقَرَّ لَزِمَ أَوْ لَمْ يَلْزَمْ فَسَاكِتٌ عَنْهُ فَلَا يَرِدُ عَلَيْهِ شَيْءٌ اهـ.
أَقُولُ: لَيْسَ مَا ذَكَرَهُ بِصَحِيحٍ، إذْ قَدْ صَرَّحُوا فِي مَوَاضِعَ شَتَّى مِنْ هَذَا الْكِتَابِ وَغَيْرِهِ بِأَنَّ التَّخْصِيصَ بِالذِّكْرِ فِي الرِّوَايَاتِ يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الْحُكْمِ عَمَّا عَدَاهُ بِلَا خِلَافٍ، حَتَّى أَنَّ الشَّارِحَ الْمَذْكُورَ قَالَ فِي أَوَاخِرِ فَصْلِ الْقِرَاءَةِ مِنْ بَابِ النَّوَافِلِ مِنْ كِتَابِ الصَّلَاةِ: فَإِنْ قِيلَ: التَّخْصِيصُ بِالذِّكْرِ لَا يَدُلُّ عَلَى النَّفْيِ قُلْنَا: ذَلِكَ فِي النُّصُوصِ دُونَ الرِّوَايَاتِ انْتَهَى. فَكَيْفَ يَصِحُّ قَوْلُهُ هَاهُنَا، وَأَمَّا أَنَّ غَيْرَ الْحُرِّ إذَا أَقَرَّ لَزِمَ أَوْ لَمْ يَلْزَمْ فَسَاكِتٌ عَنْهُ، وَلَوْ سُلِّمَ أَنَّ لُزُومَ إقْرَارِ غَيْرِ الْحُرِّ وَعَدَمَ لُزُومِهِ مَسْكُوتٌ عَنْهُ لَا يَقْصِدُ نَفْيَ لُزُومِ ذَلِكَ بِطَرِيقِ مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ لَمْ يَصِحَّ قَوْلُهُ فَلَا يَرِدُ عَلَيْهِ شَيْءٌ، إذْ يَرِدُ عَلَيْهِ حِينَئِذٍ اسْتِدْرَاكُ قَيْدِ الْحُرِّ فَيَحْتَاجُ إلَى الِاعْتِذَارِ عَنْ ذِكْرِهِ. وَقَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: وَيَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: لَيْسَ بِمَعْذِرَةٍ، وَإِنَّمَا هُوَ لِبَيَانِ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْعَبِيدِ فِي صِحَّةِ أَقَارِيرِهِمْ بِالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ وَحَجْرِ الْمَحْجُورِ عَنْ الْإِقْرَارِ بِالْمَالِ دُونَ الْمَأْذُونِ لَهُ انْتَهَى.
أَقُولُ: لَيْسَ هَذَا أَيْضًا بِصَحِيحٍ، أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّهُ لَا يَشُكُّ الْعَاقِلُ النَّاظِرُ إلَى قَوْلِ الْمُصَنِّفِ: وَشَرَطَ الْحُرِّيَّةَ لِيَصِحَّ إقْرَارُهُ مُطْلَقًا إلَخْ فِي أَنَّ مُرَادَهُ هُوَ الْمَعْذِرَةُ عَنْ ذِكْرِ قَيْدِ الْحُرِّ لَا بَيَانُ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْعَبِيدِ، وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ هَذَا لِبَيَانِ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْعَبِيدِ لَمَا كَانَ لِذِكْرِ قَوْلِهِ: وَيَصِحُّ بِالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ مَوْقِعٌ، إذْ لَا مَدْخَلَ لَهُ فِي الْفَرْقِ بَيْنَهُمْ بَلْ هُوَ مُخِلٌّ بِهِ لِأَنَّهُمْ مُتَّحِدُونَ فِي صِحَّةِ أَقَارِيرِهِمْ بِالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ، فَالْمَحْمَلُ الصَّحِيحُ لِكَلَامِ الْمُصَنِّفِ هَاهُنَا عَلَى فَرْضِ أَنْ لَا يَكُونَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ الْمَعْذِرَةَ إنَّمَا هُوَ بَيَانُ الْفَرْقِ بَيْنَ الْقُيُودِ الثَّلَاثَةِ الْوَاقِعَةِ فِي كَلَامِ الْقُدُورِيِّ بِأَنَّ قَيْدَ الْحُرِّيَّةِ شَرْطُ صِحَّةِ الْإِقْرَارِ مُطْلَقًا لَا شَرْطُ صِحَّةِ مُطْلَقِ الْإِقْرَارِ، بِخِلَافِ الْقَيْدَيْنِ الْآخَرَيْنِ: أَعْنِي الْبُلُوغَ وَالْعَقْلَ تَأَمَّلْ تَقِفْ. ثُمَّ أَقُولُ: بَقِيَ بَحْثٌ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ، أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ كَوْنَ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ مُلْحَقًا بِالْحُرِّ فِي حَقِّ الْإِقْرَارِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ فَإِنَّ الْعَبْدَ الْمَأْذُونَ وَإِنْ كَانَ مُلْحَقًا بِالْحُرِّ فِي حَقِّ الْإِقْرَارِ غَيْرُ مُسَلَّمٍ، فَإِنَّهُمْ صَرَّحُوا بِأَنَّ الْعَبْدَ الْمَأْذُونَ لَا يَصِحُّ إقْرَارُهُ بِالْمَهْرِ وَالْكَفَالَةِ وَقَتْلِ الْخَطَأِ وَقَطْعِ يَدِ الرَّجُلِ عَمْدًا أَوْ خَطَأً لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِتِجَارَةٍ وَهُوَ مُسَلَّطٌ عَلَى التِّجَارَةِ لَا غَيْرُ، وَلَا شَكَّ فِي صِحَّةِ إقْرَارِ الْحُرِّ بِتِلْكَ الْأُمُورِ فَكَانَ الْعَبْدُ الْمَأْذُونُ مِمَّنْ لَا يَصِحُّ إقْرَارُهُ مُطْلَقًا بِخِلَافِ الْحُرِّ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُحْمَلَ قَوْلُهُ فَإِنَّ الْعَبْدَ الْمَأْذُونَ وَإِنْ كَانَ مُلْحَقًا بِالْحُرِّ فِي حَقِّ الْإِقْرَارِ عَلَى الْفَرْضِ وَالْمُبَالَغَةِ.
وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ إقْرَارَ الْعَبْدِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ بِالْمَالِ نَافِذٌ فِي حَقِّ نَفْسِهِ، وَيَلْزَمُهُ الْمَالُ بَعْدَ الْحُرِّيَّةِ وَإِنْ لَمْ يَلْزَمْهُ فِي الْحَالِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي كِتَابِ الْحَجْرِ، فَمَا مَعْنَى نَفْيِ صِحَّةِ إقْرَارِهِ بِالْمَالِ هَاهُنَا بِقَوْلِهِ لَكِنَّ الْمَحْجُورَ عَلَيْهِ لَا يَصِحُّ إقْرَارُهُ بِالْمَالِ. لَا يُقَالُ: مُرَادُهُ هَاهُنَا أَنَّ إقْرَارَهُ بِالْمَالِ لَا يَصِحُّ فِي الْحَالِ لَا أَنَّهُ لَا يَصِحُّ مُطْلَقًا فَيُوَافِقُ مَا ذَكَرَهُ فِي كِتَابِ الْحَجْرِ. لِأَنَّا نَقُولُ: لَا شَكَّ أَنَّ مَقْصُودَهُ هَاهُنَا تَوْجِيهُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute