(وَلَوْ قَالَ عِنْدِي أَوْ مَعِي أَوْ فِي بَيْتِي أَوْ كِيسِي أَوْ فِي صُنْدُوقِي فَهُوَ إقْرَارٌ بِأَمَانَةٍ فِي يَدِهِ) لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ إقْرَارٌ بِكَوْنِ الشَّيْءِ فِي يَدِهِ وَذَلِكَ يَتَنَوَّعُ إلَى مَضْمُونٍ وَأَمَانَةٍ فَيَثْبُتُ وَأَقَلُّهَا وَهُوَ الْأَمَانَةُ.
(وَلَوْ قَالَ لَهُ رَجُلٌ: لِي عَلَيْك أَلْفٌ فَقَالَ اتَّزِنْهَا أَوْ انْتَقِدْهَا أَوْ أَجِّلْنِي بِهَا أَوْ قَدْ قَضَيْتُكَهَا فَهُوَ إقْرَارٌ)
دَفْعُ ذَلِكَ بِإِمْكَانِ الْفَرْقِ بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ بِأَنَّ إحْدَاهُمَا صُورَةُ الْإِثْبَاتِ، وَلَمَّا لَمْ يَتَيَسَّرْ جَمْعُ إثْبَاتِ الدَّيْنِ وَإِثْبَاتِ الْأَمَانَةِ فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ حُمِلَ عَلَى مَا هُوَ الْأَرْجَحُ مِنْهُمَا فِي هَذِهِ الصُّورَةِ، وَأَمَّا الْأُخْرَى فَصُورَةُ النَّفْيِ، وَلَمَّا تَيَسَّرَ جَمْعُ نَفْيِ الدَّيْنِ وَنَفْيِ الْأَمَانَةِ عَنْ شَيْءٍ حُمِلَ عَلَى نَفْيِهِمَا مَعًا فِي تِلْكَ الصُّورَةِ. وَيُؤَيِّدُ هَذَا الْفَرْقَ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِي بَابِ الْوَصِيَّةِ لِلْأَقَارِبِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ كِتَابِ الْوَصَايَا حَيْثُ قَالَ: وَمَنْ أَوْصَى لِمَوَالِيهِ وَلَهُ مَوَالٍ أَعْتَقَهُمْ وَمَوَالٍ أَعْتَقُوهُ فَالْوَصِيَّةُ بَاطِلَةٌ. ثُمَّ قَالَ: وَلَنَا أَنَّ الْجِهَةَ مُخْتَلِفَةٌ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا مَوْلَى النِّعْمَةِ وَالْآخَرَ مُنْعَمٌ عَلَيْهِ فَصَارَ مُشْتَرَكًا فَلَمْ يَنْتَظِمْهُمَا لَفْظٌ وَاحِدٌ فِي مَوْضِعِ الْإِثْبَاتِ، بِخِلَافِ مَا إذَا حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ مَوَالِيَ فُلَانٍ حَيْثُ يَتَنَاوَلُ الْأَعْلَى وَالْأَسْفَلَ لِأَنَّهُ مَقَامُ النَّفْيِ وَلَا تَنَافِيَ فِيهِ انْتَهَى كَلَامُهُ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ كَانَ قِيَاسُ تَرْتِيبِ وَضْعِ الْمَسْأَلَةِ أَنْ يُذْكَرَ أَوَّلًا مَا ذَكَرَهُ الْقُدُورِيُّ ثُمَّ يُذْكَرَ مَا ذُكِرَ فِي الْأَصْلِ؛ لِأَنَّ الْهِدَايَةَ شَرْحَ الْبِدَايَةِ الَّتِي تَجْمَعُ مَسَائِلَ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَمُخْتَصَرِ الْقُدُورِيِّ وَالزَّوَائِدُ عَلَيْهَا مَذْكُورَةٌ عَلَى سَبِيلِ التَّفْرِيعِ، إلَّا أَنَّ الْمُصَنِّفَ لَمَّا رَأَى الْكَلَامَ الْمَذْكُورَ فِي الْأَصْلِ هُوَ الْأَصَحَّ قَدَّمَهُ فِي الذِّكْرِ، وَلِهَذَا لَمْ يَذْكُرْ فِي الْبِدَايَةِ غَيْرَ مَا ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ (وَلَوْ قَالَ عِنْدِي أَوْ مَعِي أَوْ فِي بَيْتِي أَوْ فِي كِيسِي أَوْ فِي صُنْدُوقِي فَهُوَ إقْرَارٌ بِأَمَانَةٍ فِي يَدِهِ) وَهَذِهِ كُلُّهَا مِنْ مَسَائِلِ الْأَصْلِ. قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي تَعْلِيلِهَا (لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ إقْرَارٌ بِكَوْنِ الشَّيْءِ فِي يَدِهِ) لَا فِي ذِمَّتِهِ (وَذَلِكَ) أَيْ مَا كَانَ فِي يَدِهِ (يَتَنَوَّعُ إلَى مَضْمُونٍ وَأَمَانَةٍ فَيَثْبُتُ أَقَلُّهُمَا) وَهُوَ الْأَمَانَةُ. تَوْضِيحُهُ أَنَّ هَذِهِ الْمَوَاضِعَ مَحَلٌّ لِلْعَيْنِ لَا لِلدَّيْنِ، إذْ الدَّيْنُ مَحَلُّهُ الذِّمَّةُ وَالْعَيْنُ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مَضْمُونَةً وَأَمَانَةً وَالْأَمَانَةُ أَدْنَاهَا فَحُمِلَ عَلَيْهَا لِلتَّيَقُّنِ بِهَا، وَهَذَا لِأَنَّ كَلِمَةَ عِنْدَ لِلْقُرْبِ وَمَعَ لِلْقِرَانِ وَمَا عَدَاهُمَا لِمَكَانٍ مُعَيَّنٍ فَيَكُونُ مِنْ خَصَائِصِ الْعَيْنِ، وَلَا يَحْتَمِلُ الدَّيْنَ لِاسْتِحَالَةِ كَوْنِهِ فِي هَذِهِ الْأَمَاكِنِ، فَإِذَا كَانَتْ مِنْ خَصَائِصِ الْعَيْنِ تَعَيَّنَتْ الْأَمَانَةُ لِمَا ذَكَرْنَا، وَلِأَنَّ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ فِي الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ تُسْتَعْمَلُ فِي الْأَمَانَاتِ وَمُطْلَقُ الْكَلَامِ يُحْمَلُ عَلَى الْعُرْفِ، كَذَا فِي التَّبْيِينِ.
فَإِنْ قُلْت: يُشْكِلُ هَذَا بِمَا قَالَ: لَهُ قِبَلِي مِائَةُ دِرْهَمٍ دَيْنُ وَدِيعَةٍ أَوْ وَدِيعَةُ دَيْنٍ فَإِنَّهُ إقْرَارٌ بِالدَّيْنِ لَا بِالْأَمَانَةِ مَعَ أَنَّ الْأَمَانَةَ أَقَلُّهُمَا. قُلْت: تَنَوُّعُ اللَّفْظِ إلَى الضَّمَانِ وَالْأَمَانَةِ فِيمَا فِيهِ نَحْنُ إنَّمَا نَشَأَ مِنْ لَفْظٍ وَاحِدٍ، وَفِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ مِنْ لَفْظَيْنِ، وَالْأَصْلُ أَنَّ أَحَدَ اللَّفْظَيْنِ إذَا كَانَ لِلْأَمَانَةِ وَالْآخَرُ لِلدَّيْنِ فَإِذَا جُمِعَ بَيْنَهُمَا فِي الْإِقْرَارِ تَرَجَّحَ الدَّيْنُ، كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ. قَالَ فِي النِّهَايَةِ بَعْدَ نَقْلِ هَذَا عَنْ الْمَبْسُوطِ: وَهَذَا الْمَعْنَى وَهُوَ أَنَّ اسْتِعَارَةَ اللَّفْظِ الَّذِي يُوجِبُ الدَّيْنَ لِمَا يُوجِبُ الْأَمَانَةَ مُمْكِنٌ لَا عَلَى الْعَكْسِ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَلْزَمُ اسْتِعَارَةُ الْأَدْنَى لِلْأَعْلَى، وَذَلِكَ لَا يَصِحُّ كَمَا لَا يَصِحُّ اسْتِعَارَةُ لَفْظِ الطَّلَاقِ لِلْعَتَاقِ، وَأَمَّا فِي الْأَوَّلِ فَكَانَ فِيهِ اسْتِعَارَةُ الْأَعْلَى لِلْأَدْنَى وَهُوَ صَحِيحٌ كَاسْتِعَارَةِ الْعِتْقِ لِلطَّلَاقِ، وَالِاسْتِعَارَةُ إنَّمَا تَصِحُّ فِي اللَّفْظَيْنِ لَا فِي اللَّفْظِ الْوَاحِدِ الْمُحْتَمِلِ لِلشَّيْئَيْنِ، بَلْ إنَّمَا يُنْظَرُ فِيهِ إلَى مَا هُوَ الْأَعْلَى الْمُحْتَمَلُ وَالْأَدْنَى الْمُتَيَقَّنُ فَيُحْمَلُ عَلَى الْأَدْنَى الْمُتَيَقَّنِ لِثُبُوتِهِ يَقِينًا انْتَهَى.
(وَلَوْ قَالَ لَهُ رَجُلٌ لِي عَلَيْك أَلْفٌ فَقَالَ اتَّزِنْهَا أَوْ انْتَقِدْهَا أَوْ أَجِّلْنِي بِهَا أَوْ قَدْ قَضَيْتُكَهَا فَهُوَ إقْرَارٌ) هَذَا كُلُّهُ لَفْظُ الْقُدُورِيِّ فِي مُخْتَصَرِهِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute