لِأَنَّ الْهَاءَ فِي الْأَوَّلِ وَالثَّانِي كِنَايَةٌ عَنْ الْمَذْكُورِ فِي الدَّعْوَى، فَكَأَنَّهُ قَالَ: اتَّزِنْ الْأَلْفَ الَّتِي لَك عَلَيَّ، حَتَّى لَوْ لَمْ يَذْكُرْ حَرْفَ الْكِنَايَةِ لَا يَكُونُ إقْرَارًا لِعَدَمِ انْصِرَافِهِ إلَى الْمَذْكُورِ، وَالتَّأْجِيلُ إنَّمَا يَكُونُ فِي حَقٍّ وَاجِبٍ، وَالْقَضَاءُ يَتْلُو الْوُجُوبَ وَدَعْوَى الْإِبْرَاءِ كَالْقَضَاءِ لِمَا بَيَّنَّا، وَكَذَا دَعْوَى الصَّدَقَةِ وَالْهِبَةِ لِأَنَّ التَّمْلِيكَ يَقْتَضِي سَابِقَةَ الْوُجُوبِ، وَكَذَا لَوْ قَالَ أَحَلْتُك بِهَا عَلَى فُلَانٍ
يَعْنِي أَنَّ مَا ذَكَرَهُ الْمُجِيبُ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ كُلِّهَا يَكُونُ إقْرَارًا بِالْمُدَّعَى؛ لِأَنَّ مَا خَرَجَ جَوَابًا إذَا لَمْ يَكُنْ كَلَامًا مُسْتَقِلًّا كَانَ رَاجِعًا إلَى الْمَذْكُورِ أَوَّلًا فَكَأَنَّهُ أَعَادَهُ بِصَرِيحِ لَفْظِهِ، فَلَمَّا قَرَنَ كَلَامَهُ فِي الْأَوَّلِ وَالثَّانِي بِالْكِنَايَةِ رَجَعَ إلَى الْمَذْكُورِ فِي الدَّعْوَى وَإِلَيْهِ أَشَارَ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ (لِأَنَّ الْهَاءَ فِي الْأَوَّلِ وَالثَّانِي) أَيْ فِي قَوْلِهِ اتَّزِنْهَا وَفِي قَوْلِهِ انْتَقِدْهَا (كِنَايَةٌ عَنْ الْمَذْكُورِ فِي الدَّعْوَى فَكَأَنَّهُ قَالَ) فِي الْأَوَّلِ (اتَّزِنْ الْأَلْفَ الَّتِي لَك عَلَيَّ) وَفِي الثَّانِي انْتَقِدْ الْأَلْفَ الَّتِي لَك عَلَيَّ فَصَارَ كَمَا لَوْ أَجَابَ بِنَعَمْ لِكَوْنِهِ غَيْرَ مُسْتَقِلٍّ بِنَفْسِهِ وَقَدْ أَخْرَجَهُ مَخْرَجَ الْجَوَابِ (حَتَّى لَوْ لَمْ يَذْكُرْ حَرْفَ الْكِتَابَةِ) يَعْنِي الْهَاءَ (لَا يَكُونُ) كَلَامُهُ (إقْرَارًا) بِالْمُدَّعَى (لِعَدَمِ انْصِرَافِهِ) أَيْ لِعَدَمِ انْصِرَافِ كَلَامِهِ (إلَى الْمَذْكُورِ) أَيْ إلَى الْمَذْكُورِ فِي الدَّعْوَى لِكَوْنِهِ مُسْتَقِلًّا بِنَفْسِهِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: اُقْعُدْ وَزَّانًا لِلنَّاسِ أَوْ نَقَّادًا لَهُمْ دَرَاهِمَهُمْ وَاكْتُبْ الْمَالَ وَلَا تُؤْذِنِي بِالدَّعْوَى الْبَاطِلَةِ (وَالتَّأْجِيلُ إنَّمَا يَكُونُ فِي حَقٍّ وَاجِبٍ) هَذَا إشَارَةٌ إلَى تَعْلِيلِ كَوْنِ قَوْلِهِ أَجِّلْنِي بِهَا إقْرَارًا، يَعْنِي أَنَّ التَّأْجِيلَ إنَّمَا يَكُونُ فِي حَقٍّ وَاجِبٍ لِأَنَّهُ لِلتَّرْفِيهِ فَاقْتَضَى ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ طَلَبُ التَّأْجِيلِ إقْرَارًا بِحَقٍّ وَاجِبٍ (وَالْقَضَاءُ يَتْلُو الْوُجُوبَ) أَيْ يَتْبَعُ الْوُجُوبَ هَذَا إشَارَةٌ إلَى تَعْلِيلِ كَوْنِ قَوْلِهِ قَدْ قَضَيْتُكَهَا إقْرَارًا: يَعْنِي أَنَّ الْقَضَاءَ يَقْضِي سَبْقَ الْوُجُوبِ لِأَنَّهُ تَسْلِيمُ مِثْلِ الْوَاجِبِ فَلَا يُتَصَوَّرُ بِدُونِهِ، فَلَمَّا ادَّعَى قَضَاءَ الْأَلْفِ صَارَ مُقِرًّا بِوُجُوبِهَا (وَدَعْوَى الْإِبْرَاءِ) بِأَنْ قَالَ أَبْرَأْتَنِي مِنْهَا (كَالْقَضَاءِ) أَيْ كَدَعْوَى الْقَضَاءِ (لِمَا بَيَّنَّا) أَشَارَ بِهِ إلَى قَوْلِهِ وَالْقَضَاءُ يَتْلُو الْوُجُوبَ: يَعْنِي أَنَّ الْإِبْرَاءَ أَيْضًا يَتْلُو الْوُجُوبَ لِأَنَّ الْإِبْرَاءَ إسْقَاطٌ، وَهَذَا إنَّمَا يَكُونُ فِي مَالٍ وَاجِبٍ عَلَيْهِ، كَذَا فِي الْكَافِي.
أَقُولُ: هَاهُنَا إشْكَالٌ، وَهُوَ أَنَّهُ قَدْ أَطْبَقَتْ كَلِمَةُ الْفُقَهَاءِ فِي كِتَابِ الْإِقْرَارِ عَلَى أَنَّ قَوْلَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِالْأَلْفِ لِلْمُدَّعِي: قَدْ قَضَيْتُكَهَا أَوْ أَبْرَأْتَنِي مِنْهَا إقْرَارٌ بِوُجُوبِ الْأَلْفِ عَلَيْهِ. وَقَالُوا فِي تَعْلِيلِ هَذَا: إنَّ الْقَضَاءَ يَتْلُو الْوُجُوبَ، وَكَذَا الْإِبْرَاءُ يَتْلُوهُ. وَقَدْ صَرَّحُوا فِي كِتَابِ الدَّعْوَى فِي أَكْثَرِ الْمُعْتَبَرَاتِ وَفِي مَسَائِلَ شَتَّى مِنْ كِتَابِ الْقَضَاءِ فِي الْهِدَايَةِ وَالْوِقَايَةِ بِأَنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِالْأَلْفِ لَوْ قَالَ لِلْمُدَّعِي: لَيْسَ لَك عَلَيَّ شَيْءٌ قَطُّ أَوْ مَا كَانَ لَك عَلَيَّ شَيْءٌ قَطُّ ثُمَّ ادَّعَى قَضَاءَ تِلْكَ الْأَلْفِ لِلْمُدَّعِي، أَوْ ادَّعَى إبْرَاءَ الْمُدَّعِي إيَّاهُ مِنْ تِلْكَ الْأَلْفِ وَأَقَامَ بَيِّنَةً عَلَى ذَلِكَ سُمِعَتْ دَعْوَاهُ وَقُبِلَتْ بَيِّنَتُهُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا سِوَى زُفَرَ، وَقَالُوا فِي تَعْلِيلِ ذَلِكَ: إنَّ التَّوْفِيقَ مُمْكِنٌ لِأَنَّ غَيْرَ الْحَقِّ قَدْ يُقْضَى وَيُبْرَأُ مِنْهُ دَفْعًا لِلْخُصُومَةِ، حَتَّى قَالَ الْمُصَنِّفُ هُنَاكَ: أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُقَالُ قَضَى بِبَاطِلٍ وَقَدْ يُصَالِحُ عَلَى شَيْءٍ فَيَثْبُتُ ثُمَّ يَقْضِي، وَلَمْ يَعْتَبِرُوا قَوْلَ زُفَرَ هُنَاكَ الْقَضَاءُ يَتْلُو الْوُجُوبَ، وَكَذَا الْإِبْرَاءُ، وَقَدْ أَنْكَرَهُ فَيَكُونُ مُنَاقِضًا فَكَانَ بَيْنَ كَلَامَيْهِمْ الْمُقَرَّرَيْنِ فِي الْمَقَامَيْنِ تَدَافُعٌ لَا يَخْفَى فَتَدَبَّرْ
(وَكَذَا دَعْوَى الصَّدَقَةِ وَالْهِبَةِ) يَعْنِي لَوْ قَالَ: تَصَدَّقْت بِهَا عَلَيَّ أَوْ وَهَبْتهَا لِي كَانَ ذَلِكَ أَيْضًا إقْرَارًا مِنْهُ (لِأَنَّ التَّمْلِيكَ يَقْتَضِي سَابِقَةَ الْوُجُوبِ) يَعْنِي أَنَّ الصَّدَقَةَ وَالْهِبَةَ مِنْ قَبِيلِ التَّمْلِيكِ، فَدَعْوَى الصَّدَقَةِ وَالْهِبَةِ دَعْوَى التَّمْلِيكِ مِنْهُ وَذَا لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ وُجُوبِ الْمَالِ فِي ذِمَّتِهِ كَمَا لَا يَخْفَى (وَكَذَا لَوْ قَالَ: أَحَلْتُك بِهَا عَلَى فُلَانٍ) أَيْ كَانَ هَذَا الْقَوْلُ مِنْهُ أَيْضًا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute