قَالَ (وَإِنْ أُبْهِمَ الْإِقْرَارُ لَمْ يَصِحَّ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: يَصِحُّ) لِأَنَّ الْإِقْرَارَ مِنْ الْحُجَجِ فَيَجِبُ إعْمَالُهُ وَقَدْ أَمْكَنَ بِالْحَمْلِ عَلَى السَّبَبِ الصَّالِحِ. وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْإِقْرَارَ مُطْلَقَهُ يَنْصَرِفُ إلَى الْإِقْرَارِ بِسَبَبِ التِّجَارَةِ، وَلِهَذَا حُمِلَ إقْرَارُ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ لَهُ وَأَحَدِ الْمُتَفَاوِضِينَ عَلَيْهِ فَيَصِيرُ كَمَا إذَا صَرَّحَ بِهِ.
وَقَدْ يُشْتَبَهُ عَلَى الْجَاهِلِ فَيَظُنُّ أَنَّ الْجَنِينَ يَثْبُتُ عَلَيْهِ الْوِلَايَةُ كَالْمُنْفَصِلِ فَيُعَامِلُهُ ثُمَّ يُقِرُّ بِذَلِكَ الْمَالِ لِلْجَنِينِ بِنَاءً عَلَى ظَنِّهِ وَيُبَيِّنُ سَبَبَهُ ثُمَّ يَعْلَمُ أَنَّ ذَلِكَ السَّبَبَ كَانَ بَاطِلًا فَكَانَ كَلَامُهُ هَذَا بَيَانًا لَا رُجُوعًا فَلِهَذَا كَانَ مَقْبُولًا مِنْهُ، كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ وَأَكْثَرِ الشُّرَّاحِ.
قَالَ فِي الْعِنَايَةِ: أُجِيبَ بِأَنَّهُ لَيْسَ بِرُجُوعٍ، بَلْ ظَهَرَ كَذِبُهُ بِيَقِينٍ كَمَا لَوْ قَالَ: قَطَعْت يَدَ فُلَانٍ عَمْدًا أَوْ خَطَأً وَيَدُ فُلَانٍ صَحِيحَةٌ انْتَهَى. أَقُولُ: فِيهِ بَحْثٌ؛ لِأَنَّهُ إنْ ظَهَرَ كَذِبُهُ فَإِنَّمَا ظَهَرَ فِي بَيَانِ ذَلِكَ السَّبَبِ الْغَيْرِ الصَّالِحِ لَا فِي أَصْلِ إقْرَارِهِ، وَهَذَا لَا يُنَافِي كَوْنَ بَيَانِ السَّبَبِ بِذَلِكَ الْوَجْهِ رُجُوعًا عَنْ أَصْلِ إقْرَارِهِ الْوَاقِعِ فِي أَوَّلِ كَلَامِهِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ صَادِقًا فِي إقْرَارِهِ بِأَنْ كَانَ لَهُ سَبَبٌ صَالِحٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَلَكِنْ قَصَدَ الرُّجُوعَ فَبَيَّنَ سَبَبًا مُسْتَحِيلًا، بِخِلَافِ قَوْلِهِ قَطَعْت يَدَ فُلَانٍ وَهِيَ صَحِيحَةٌ فَإِنَّهُ كَاذِبٌ هُنَاكَ فِي أَصْلِ إقْرَارِهِ بِيَقِينٍ، فَالظَّاهِرُ فِي الْجَوَابِ مَا ذُكِرَ فِي الْمَبْسُوطِ وَغَيْرِهِ.
فَإِنْ قُلْت: كَمَا أَنَّ الْبَيْعَ وَالْإِقْرَاضَ لَا يُتَصَوَّرَانِ مِنْ الْجَنِينِ كَذَلِكَ لَا يُتَصَوَّرَانِ مِنْ الرَّضِيعِ، وَمَعَ ذَلِكَ لَوْ أَقَرَّ بِأَنَّ عَلَيْهِ أَلْفَ دِرْهَمٍ لِهَذَا الصَّبِيِّ الرَّضِيعِ بِسَبَبِ الْبَيْعِ أَوْ الْإِقْرَاضِ أَوْ الْإِجَارَةِ فَإِنَّهُ صَحِيحٌ يُؤَاخَذُ بِهِ.
قُلْت: الرَّضِيعُ وَإِنْ كَانَ لَا يَتَّجِرُ بِنَفْسِهِ لَكِنَّهُ مِنْ أَهْلِ أَنْ يَسْتَحِقَّ الدَّيْنَ بِهَذَا السَّبَبِ بِتِجَارَةِ وَلِيِّهِ، وَكَذَلِكَ الْإِقْرَاضُ وَإِنْ كَانَ لَا يُتَصَوَّرُ مِنْهُ لَكِنَّهُ يُتَصَوَّرُ مِنْ نَائِبِهِ وَهُوَ الْقَاضِي أَوْ الْأَبُ بِإِذْنِ الْقَاضِي، وَإِذَا تُصُوِّرَ ذَلِكَ مِنْ نَائِبِهِ جَازَ لِلْمُقِرِّ إضَافَةُ الْإِقْرَارِ إلَيْهِ لِأَنَّ فِعْلَ النَّائِبِ قَدْ يُضَافُ إلَى الْمَنُوبِ عَنْهُ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ وَغَيْرِهَا، وَإِنْ لَمْ يُبَيِّنْ سَبَبًا أَصْلًا وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ (وَإِنْ أُبْهِمَ الْإِقْرَارُ لَمْ يَصِحَّ) أَيْ الْإِقْرَارُ (عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ) قِيلَ وَأَبُو حَنِيفَةَ مَعَهُ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي قَوْلٍ (وَقَالَ مُحَمَّدٌ: يَصِحُّ) وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْأَصَحِّ وَمَالِكٌ وَأَحْمَدُ (لِأَنَّ الْإِقْرَارَ مِنْ الْحُجَجِ) الشَّرْعِيَّةِ (فَيَجِبُ إعْمَالُهُ) مَهْمَا أَمْكَنَ، وَذَلِكَ إذَا صَدَرَ مِنْ أَهْلِهِ مُضَافًا إلَى مَحَلِّهِ (وَقَدْ أَمْكَنَ) إعْمَالُهُ هَاهُنَا، إذْ لَا نِزَاعَ فِي صُدُورِهِ عَنْ أَهْلِهِ لِأَنَّهُ هُوَ الْمَفْرُوضُ وَأَمْكَنَ إضَافَتُهُ إلَى مَحَلِّهِ (بِالْحَمْلِ عَلَى السَّبَبِ الصَّالِحِ) وَهُوَ الْمِيرَاثُ أَوْ الْوَصِيَّةُ تَحَرِّيًا لِلْجَوَازِ وَتَصْحِيحًا لِكَلَامِ الْعَاقِلِ كَالْعَبْدِ الْمَأْذُونِ لَهُ إذَا أَقَرَّ بِدَيْنٍ فَإِنَّ إقْرَارَهُ وَإِنْ احْتَمَلَ الْفَسَادَ بِكَوْنِهِ صَدَاقًا أَوْ دَيْنَ كَفَالَةٍ بِكَوْنِهِ مِنْ التِّجَارَةِ كَانَ جَائِزًا تَصْحِيحًا لِكَلَامِ الْعَاقِلِ (وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْإِقْرَارَ مُطْلَقَهُ) أَيْ مُطْلَقَ الْإِقْرَارِ (يَنْصَرِفُ إلَى الْإِقْرَارِ بِسَبَبِ التِّجَارَةِ، وَلِهَذَا حُمِلَ إقْرَارُ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ لَهُ وَأَحَدِ الْمُتَفَاوِضِينَ فِي الشَّرِكَةِ) (عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى الْإِقْرَارِ بِسَبَبِ التِّجَارَةِ وَلَمْ يُحْمَلْ عَلَى الْإِقْرَارِ بِغَيْرِ سَبَبِ التِّجَارَةِ كَدَيْنِ الْمَهْرِ وَأَرْشِ الْجِنَايَةِ حَتَّى يُؤَاخَذُ بِهِ الْعَبْدُ الْمَأْذُونُ فِي حَالِ رِقِّهِ وَالشَّرِيكُ الْآخَرُ فِي الْحَالِ، وَفِي الْإِقْرَارِ بِدَيْنِ الْمَهْرِ وَأَرْشِ الْجِنَايَةِ لَا يُؤَاخَذُ الْعَبْدُ الْمَأْذُونُ فِي حَالِ رِقِّهِ وَلَا الشَّرِيكُ الْآخَرُ أَبَدًا، كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ (فَيَصِيرُ) أَيْ فَيَصِيرُ الْمُقِرُّ فِيمَا إذَا أُبْهِمَ بِدَلَالَةِ الْعُرْفِ (كَمَا إذَا صُرِّحَ بِهِ) أَيْ بِسَبَبِ التِّجَارَةِ، وَلَوْ صُرِّحَ بِهِ كَانَ فَاسِدًا، فَكَذَا إذَا أُبْهِمَ.
قَالَ فِي النِّهَايَةِ: وَلِأَبِي يُوسُفَ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ، وَالثَّانِي مَا ذُكِرَ فِي الذَّخِيرَةِ فَقَالَ: إنَّ هَذَا إقْرَارٌ صَدَرَ مِنْ أَهْلِهِ لِأَهْلِهِ وَقَدْ احْتَمَلَ الْجَوَازَ وَالْفَسَادَ كَمَا قَالَهُ، إلَّا أَنَّ حَمْلَهُ عَلَى الْجَوَازِ مُتَعَذِّرٌ لِأَنَّ الْجَوَازَ لَهُ وَجْهَانِ: الْوَصِيَّةُ، وَالْمِيرَاثُ، وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا مُتَعَذِّرٌ، وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا بِأَنْ يُعْتَبَرَ سَبَبًا أَوْلَى مِنْ الْآخَرِ فَتَعَذَّرَ الْحَمْلُ عَلَى الْجَوَازِ فَيُحْكَمُ بِالْفَسَادِ، وَنَظِيرُ هَذَا مَا قَالُوا فِيمَنْ اشْتَرَى عَبْدًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَقَبَضَهُ الْمُشْتَرِي قَبْلَ نَقْدِ الثَّمَنِ ثُمَّ بَاعَهُ الْمُشْتَرِي مَعَ عَبْدٍ آخَرَ لَهُ مِنْ الْبَائِعِ بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ وَقِيمَتُهُمَا عَلَى السَّوَاءِ كَانَ الْبَيْعُ فِي الَّذِي اشْتَرَى مِنْ الْبَائِعِ فَاسِدًا وَإِنْ احْتَمَلَ الْجَوَازَ لِأَنَّ لِلْجَوَازِ وَجْهَيْنِ، بِأَنْ يُصْرَفَ إلَيْهِ مِثْلُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute