وَلَهُمَا أَنَّ الْمُجَانَسَةَ فِي الْأَوَّلِ ثَابِتَةٌ مِنْ حَيْثُ الثَّمَنِيَّةُ،
حَيْثُ الْمَالِيَّةُ. وَعِنْدَنَا الِاسْتِثْنَاءُ يَمْنَعُ التَّكَلُّمَ بِحُكْمِهِ بِقَدْرِ الْمُسْتَثْنَى فَيَصِيرُ كَالتَّكَلُّمِ بِمَا وَرَاءَ الْمُسْتَثْنَى، وَيَخْرُجُ كَلَامُهُ فِي الْقَدْرِ الْمُسْتَثْنَى مِنْ أَنْ يَكُونَ إيجَابًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلا خَمْسِينَ عَامًا﴾ وَامْتِنَاعُ ثُبُوتِ الْحُكْمِ لِقِيَامِ الدَّلِيلِ الْمُعَارِضِ يَكُونُ فِي الْإِيجَابِ لَا فِي الْإِخْبَارِ، وَقَدْ قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ قَاطِبَةً: إنَّ الِاسْتِثْنَاءَ اسْتِخْرَاجٌ وَتَكَلُّمٌ بِالْبَاقِي بَعْدَ الثَّنِيَّا فَنَجْمَعُ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ وَنَقُولُ: إنَّهُ اسْتِخْرَاجٌ وَتَكَلُّمٌ بِالْبَاقِي بِوَضْعِهِ وَإِثْبَاتٌ وَنَفْيٌ بِإِشَارَتِهِ، وَاخْتِيرَ الْإِثْبَاتُ فِي كَلِمَةِ التَّوْحِيدِ إشَارَةً وَالنَّفْيُ قَصْدًا لِأَنَّهُ الْمَقْصُودُ، إذْ الْكُفَّارُ يُقِرُّونَ بِهِ إلَّا أَنَّهُمْ يُشْرِكُونَ مَعَهُ غَيْرَهُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ﴾ فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا الْأَصْلُ فَنَقُولُ إلَخْ.
وَسَلَكَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ هَذَا الْمَسْلَكَ فِي حَلِّ هَذَا الْمَقَامِ إلَّا أَنَّهُ قَالَ فِي أَثْنَاءِ تَقْرِيرِ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ بَعْدَ قَوْلِهِ يَجِبُ الْعَمَلُ بِالدَّلِيلِ الْمُعَارِضِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ. فَإِنْ كَانَ الْمُسْتَثْنَى مِنْ جِنْسِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ كَانَ الدَّلِيلُ الْمُعَارِضُ فِي الْعَيْنِ فَيَمْتَنِعُ الْعَمَلُ بِقَدْرِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ جِنْسِهِ كَانَ الدَّلِيلُ الْمُعَارِضُ بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ فَيَمْتَنِعُ ثُبُوتُ الْحُكْمِ بِقَدْرِ قِيمَةِ الْمُسْتَثْنَى، وَقَدْ اقْتَفَى أَثَرَهُ بَعْضُ الشُّرَّاحِ. وَقَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: وَكَلَامُ الْمُصَنِّفِ كَمَا تَرَى يُشِيرُ إلَى أَنَّ الْمُجَانَسَةَ بَيْنَ الْمُسْتَثْنَى وَالْمُسْتَثْنَى مِنْهُ شَرْطٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ أَيْضًا وَهُوَ الْحَقُّ، وَقَرَّرَ الشَّارِحُونَ كَلَامَهُ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ بِشَرْطٍ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ عِنْدَهُ يُعَارِضُ الصَّدْرَ وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِهِ الْمُجَانَسَةُ، وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ لِأَنَّهُ يَقُولُ بِالْإِخْرَاجِ بَعْدَ الدُّخُولِ بِطَرِيقِ الْمُعَارَضَةِ، وَنَحْنُ نَقُولُ بِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ لِبَيَانِ أَنَّ الصَّدْرَ لَمْ يَتَنَاوَلْ الْمُسْتَثْنَى فَهُوَ أَحْوَجُ إلَى إثْبَاتِ الْمُجَانَسَةِ لِأَجْلِ الدُّخُولِ مِنَّا، انْتَهَى كَلَامُهُ. أَقُولُ: لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ الشَّارِحِينَ بِأَنَّ الْمُجَانَسَةَ بَيْنَ الْمُسْتَثْنَى وَالْمُسْتَثْنَى مِنْهُ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ سِوَى صَاحِبِ الْغَايَةِ فَإِنَّهُ قَالَ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ كَلَامٌ آخَرُ يُعَارِضُ الصَّدْرَ بِحُكْمِهِ وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِهِ الْمُجَانَسَةُ، أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِهِ:
وَبَلْدَةٍ لَيْسَ بِهَا أَنِيسٌ … إلَّا الْيَعَافِيرُ وَإِلَّا الْعِيسُ
قَدْ اسْتَثْنَى مِنْ خِلَافِ الْجِنْسِ انْتَهَى.
وَأَمَّا مَا قَالَهُ صَاحِبُ النِّهَايَةِ وَمَنْ تَبِعَهُ مِنْ أَنَّهُ إنْ كَانَ الْمُسْتَثْنَى مِنْ جِنْسِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ كَانَ الدَّلِيلُ الْمُعَارِضُ فِي الْعَيْنِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ جِنْسِهِ كَانَ الدَّلِيلُ الْمُعَارِضُ بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ فَلَيْسَ بِدَالٍّ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْجِنْسِ فِي قَوْلِهِمْ إنْ كَانَ الْمُسْتَثْنَى مِنْ جِنْسِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ كَانَ الدَّلِيلُ الْمُعَارِضُ فِي الْعَيْنِ مَا هُوَ جِنْسٌ صُورَةً وَمَعْنًى لَا مُطْلَقُ الْجِنْسِ الشَّامِلِ لِمَا هُوَ جِنْسٌ مَعْنًى فَقَطْ وَإِلَّا لَمْ يَتِمَّ قَوْلُهُمْ كَانَ الدَّلِيلُ الْمُعَارِضُ فِي الْعَيْنِ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى الْمُتَأَمِّلِ، فَكَانَ الْمُرَادُ بِالْجِنْسِ فِي قَوْلِهِمْ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ جِنْسِهِ مَا هُوَ جِنْسٌ صُورَةً وَمَعْنًى أَيْضًا فَالْمَفْهُومُ مِنْهُ انْتِفَاءُ الْمُجَانَسَةِ بِهَذَا الْمَعْنَى فِي بَعْضِ مَوَادِّ الِاسْتِثْنَاءِ، وَهَذَا لَا يُنَافِي كَوْنَ الْمُجَانَسَةِ فِي الْجُمْلَةِ شَرْطًا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ أَيْضًا فِي جَمِيعِ مَوَادِّ الِاسْتِثْنَاءِ كَمَا بَيْنَ الدِّرْهَمِ وَالثَّوْبِ مِنْ حَيْثُ الْمَالِيَّةُ، فَقَوْلُ الشَّارِحِ الْأَكْمَلِ: قَرَّرَ الشَّارِحُونَ كَلَامَهُ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ بِشَرْطٍ لَيْسَ بِتَامٍّ (وَلَهُمَا) أَيْ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ (أَنَّ الْمُجَانَسَةَ فِي الْأَوَّلِ) أَيْ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ وَهُوَ قَوْلُهُ لَهُ عَلَيَّ مِائَةُ دِرْهَمٍ إلَّا دِينَارًا وَإِلَّا قَفِيزَ حِنْطَةٍ (ثَابِتَةٌ مِنْ حَيْثُ الثَّمَنِيَّةُ) يَعْنِي أَنَّ شَرْطَ الِاسْتِثْنَاءِ الْمُتَّصِلِ الْمُجَانَسَةُ وَهِيَ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ ثَابِتَةٌ مِنْ حَيْثُ الثَّمَنِيَّةُ دُونَ الْوَجْهِ الثَّانِي وَهُوَ قَوْلُهُ عَلَيَّ مِائَةُ دِرْهَمٍ إلَّا ثَوْبًا.
قَالَ فِي الْعِنَايَةِ: وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ عَدَمَ تَنَاوُلِ الدَّرَاهِمِ غَيْرَهَا لَفْظًا لَا يَرْتَابُ فِيهِ أَحَدٌ، وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِي تَنَاوُلِهَا إيَّاهُ حُكْمًا، فَقُلْنَا يَتَنَاوَلُ مَا كَانَ عَلَى أَخَصِّ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute