للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لِأَنَّ الشَّرْعَ قَصَرَ تَصَرُّفَهُ عَلَيْهِ.

إِلَّا أَنَّا نَقُولُ: لَمَّا صَحَّ إِقْرَارُهُ فِي الثُّلُثِ كَانَ لَهُ التَّصَرُّفُ فِي ثُلُثِ الْبَاقِي لِأَنَّهُ الثُّلُثُ بَعْدَ الدَّيْنِ ثُمَّ وَثُمَّ حَتَّى يَأْتِيَ عَلَى الْكُلِّ.

قَالَ (وَمَنْ أَقَرَّ لِأَجْنَبِيٍّ ثُمَّ قَالَ: هُوَ ابْنِي ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُ وَبَطَلَ إِقْرَارُهُ، فَإِنْ أَقَرَّ لِأَجْنَبِيَّةٍ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا لَمْ يَبْطُلْ إِقْرَارُهُ لَهَا) وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ دَعْوَةَ النَّسَبِ تَسْتَنِدُ إِلَى وَقْتِ الْعُلُوقِ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ أَقَرَّ لِابْنِهِ فَلَا يَصِحُّ وَلَا كَذَلِكَ الزَّوْجِيَّةُ لِأَنَّهَا تَقْتَصِرُ عَلَى زَمَانِ التَّزَوُّجِ فَبَقِيَ إِقْرَارُهُ لِأَجْنَبِيَّةٍ.

بَعْضِ النَّاسِ، كَمَا ذَكَرَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ فِي مَبْسُوطِهِ؛ (لِأَنَّ الشَّرْعَ قَصَرَ تَصَرُّفَهُ)، أَيْ: تَصَرُّفِ الْمَرِيضِ. (عَلَيْهِ)، أَيْ: عَلَى الثُّلُثِ وَتَعَلَّقَ بِالثُّلُثَيْنِ حَقُّ الْوَرَثَةِ؛ وَلِهَذَا لَوْ تَبَرَّعَ بِجَمِيعِ مَالِهِ لَمْ يُنَفَّذْ إِلَّا فِي الثُّلُثِ، فَكَذَا الْإِقْرَارُ وَجَبَ أَنْ لَا يَنْفُذُ إِلَّا فِي الثُّلُثِ، كَذَا قَالُوا.

أَقُولُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: الشَّرْعُ إِنَّمَا قَصَرَ عَلَى الثُّلُثِ تَصَرُّفَهُ الَّذِي لَمْ يَكُنْ مِنَ الْحَوَائِجِ الْأَصْلِيَّةِ دُونَ مُطْلَقِ التَّصَرُّفِ، وَإِلَّا لَزِمَ أَنْ لَا يَنْفُذُ تَصَرُّفَهُ فِي نَحْوِ ثَمَنِ الْأَغْذِيَةِ وَالْأَدْوِيَةِ إِلَّا فِي مِقْدَارِ الثُّلُثِ وَلَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ، وَقَدْ تَقَرَّرَ فِيمَا مَرَّ أَنَّ قَضَاءَ الدَّيْنِ مِنَ الْحَوَائِجِ الْأَصْلِيَّةِ، فَلَمْ يَجْرِ الْقِيَاسُ الْمَذْكُورُ فِي الْإِقْرَارِ بِالدَّيْنِ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يَدَّعِي أَنَّ كَوْنَ قَضَاءِ الدَّيْنِ مِنَ الْحَوَائِجِ الْأَصْلِيَّةِ عَلَى مُوجَبِ الِاسْتِحْسَانِ أَيْضًا دُونَ الْقِيَاسِ. (إِلَّا أَنَّا نَقُولُ) فِي وَجْهِ الِاسْتِحْسَانِ: (لَمَا صَحَّ إِقْرَارُهُ فِي الثُّلُثِ) لِانْتِفَاءِ التُّهْمَةِ عَنْ إِقْرَارِهِ فِي ذَلِكَ الْقَدْرِ لِعَدَمِ تُعَلِّقِ الْوَرَثَةِ بِهِ، (كَانَ لَهُ التَّصَرُّفُ فِي ثُلْثِ الْبَاقِي؛ لِأَنَّهُ الثُّلُثُ بَعْدَ الدَّيْنِ)، وَالثُّلُثُ بَعْدَ الدَّيْنِ مَحَلُّ التَّصَرُّفِ قَطْعًا فَيَنْفُذُ الْإِقْرَارُ فِي الثُّلُثِ الثَّانِي. (ثُمَّ وَثُمَّ حَتَّى يَأْتِيَ عَلَى الْكُلِّ)، كَذَا فِي الْإِيضَاحِ وَعَامَّةِ الْمُعْتَبِرَاتِ.

أَقُولُ: فِيهِ شَيْءٌ، وَهُوَ أَنَّ الْإِتْيَانَ عَلَى الْكُلِّ غَيْرُ مُتَصَوَّرٍ فِي الْوَجْهِ الْمَزْبُورِ، أَمَّا عَلَى الْقَوْلِ بِالْجُزْءِ الَّذِي لَا يَتَجَزَّأُ، كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الْمُتَكَلِّمِينَ فَظَاهَرٌ؛ لِأَنَّ التَّثْلِيثَ إِذَا انْتَهَى إِلَى ثَلَاثَةِ أَجْزَاءٍ فَأُخْرِجَ مِنْهَا أَحَدُهَا، وَبَقِيَ الْجُزْآنِ امْتَنَعَ بَعْدَ ذَلِكَ إِخْرَاجُ الثُّلُثِ مِنْ ذَيْنِكَ الْجُزْأَيْنِ الْبَاقِيَيْنِ لِعَدَمِ إِمْكَانِ التَّجَزُّؤِ فِي شَيْءٍ مِنْهُمَا.

وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ بِإِمْكَانِ الْقِسْمَةِ إِلَى غَيْرِ النِّهَايَةِ، كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الْحُكَمَاءِ فَكَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الثُّلُثَ فِي كُلِّ مَرْتَبَةٍ لَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عَيْنَ الْكُلِّ لِلْقَطْعِ بِمُغَايَرَةِ الْجُزْءِ لِلْكُلِّ. لَا يُقَالُ: مُرَادُهُمُ الْإِتْيَانُ عَلَى قَرِيبٍ مِنَ الْكُلِّ لَا عَلَى الْكُلِّ حَقِيقَةً؛ لِأَنَّا نَقُولُ: فَحِينَئِذٍ لَا يَتِمُّ التَّقْرِيبُ؛ لِأَنَّ الْمُدَّعِي جَوَازَ الْإِقْرَارِ لِأَجْنَبِيٍّ، وَإِنْ أَحَاطَ بِكُلِّ مَالِهِ حَقِيقَةً، تَدَبَّرْ، وَنَقْضُ الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ وَبِالْوَصِيَّةِ بِجَمِيعِ مَالِهِ إِذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ؛ فَإِنَّهَا لَا تَجُوزُ عِنْدَ تَحَقُّقِ الْوَرَثَةِ مَعَ جَرَيَانِ الطَّرِيقِ الْمَزْبُورِ فِيهَا؛ لِأَنَّ الْمَرِيضَ لَهُ حَقُّ التَّصَرُّفِ فِي ثُلْثِ مَالِهِ بِدُونِ إِجَازَةِ الْوَرَثَةِ، فَلَمَّا صَحَّ تَصَرُّفُهُ فِي ثُلْثِ مَالِهِ كَانَ لَهُ التَّصَرُّفُ فِي ثُلْثِ الْبَاقِي لِمَا أَنَّ جَمِيعَ مَالِهِ بَعْدَ الثُّلُثِ الْخَارِجِ جُعِلَ كَأَنَّهُ هُوَ مِنْ الِابْتِدَاءِ فَيَجِبُ أَنْ تَنْفُذَ وَصِيَّتُهُ فِي ثُلْثِهِ أَيْضًا ثُمَّ وَثُمَّ إِلَى أَنْ يَأْتِيَ عَلَى الْكُلِّ.

وَأُجِيبُ بِأَنَّ الثُّلُثَ بَعْدَ الدَّيْنِ مَحَلُّ تَصَرُّفِ الْمَرِيضِ، فَلَمَّا أَقَرَّ بِدَيْنٍ انْتَقَلَ مَحَلُّ التَّصَرُّفِ إِلَى ثُلْثِ مَا بَعْدَهُ، وَلَيْسَ الثُّلُثُ بَعْدَ الْوَصِيَّةِ بِشَيْءٍ مُحَلَّ تَصَرُّفِ الْمَرِيضِ وَصِيَّةً، وَإِنَّمَا مَحَلُّ الْوَصِيَّةِ ثُلْثُ الْمَجْمُوعِ لَا غَيْرَ فَافْتَرَقَا.

(قَالَ)، أَيْ: الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ: (وَمَنْ أَقَرَّ لِأَجْنَبِيٍّ) فِي مَرَضِهِ بِمَالٍ، (ثُمَّ قَالَ: هُوَ ابْنِي ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُ)، أَيْ: ثَبَتَ نَسَبُ الْمُقَرِّ لَهُ مِنَ الْمُقِرِّ، (وَبَطَلَ إِقْرَارُهُ) بِالْمَالِ. (فَإِنْ أَقَرَّ لِأَجْنَبِيَّةٍ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا لَمْ يَبْطُلْ إِقْرَارُهُ لَهَا)، بِخِلَافِ الْهِبَةِ وَالْوَصِيَّةِ؛ حَيْثُ بَطَلَتَا لَهَا أَيْضًا. وَقَالَ زُفَرُ: بَطَلَ الْإِقْرَارُ لَهَا أَيْضًا؛ لِأَنَّهَا وَارِثَةٌ لَهُ عِنْدَ الْمَوْتِ، فَحَصَلَتِ التُّهْمَةُ وَهِيَ الْمُعْتَبَرُ فِي الْبَابِ، وَلَنَا مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ: (وَوَجْهُ الْفَرْقِ)، أَيْ: بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ (أَنَّ دَعْوَةَ النَّسَبِ تَسْتَنِدُ إِلَى وَقْتِ الْعُلُوقِ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ أَقَرَّ لِابْنِهِ فَلَا يَصِحُّ)، يَعْنِي: أَنَّ النَّسَبَ إِذَا ثَبَتَ ثَبَتَ مُسْتَنِدًا إِلَى وَقْتِ الْعُلُوقِ فَتَبَيَّنَ بِذَلِكَ أَنَّ إِقْرَارَ الْمَرِيضِ وَقَعَ لِوَارِثِهِ وَذَلِكَ بَاطِلٌ.

(وَلَا كَذَلِكَ الزَّوْجِيَّةُ؛ لِأَنَّهَا تَقْتَصِرُ عَلَى زَمَانِ التَّزَوُّجِ)، يَعْنِي: أَنَّ الزَّوْجِيَّةَ إِذَا ثَبَتَتْ ثَبَتَتْ مُقْتَصِرَةً عَلَى زَمَانِ الْعَقْدِ، (فَبَقِيَ إِقْرَارُهُ لِأَجْنَبِيَّةٍ)، فَيَصِحُّ بِخِلَافِ الْهِبَةِ وَالْوَصِيَّةِ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ تَمْلِيكٌ بَعْدَ الْمَوْتِ وَهِيَ وَارِثَةٌ حِينَئِذٍ، وَالْهِبَةُ

<<  <  ج: ص:  >  >>