. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
التَّصْدِيقِ بِاعْتِبَارِ الْإِرْثِ الْمَعْدُومِ وَقْتَئِذٍ، وَأَمَّا الْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فَمَعَ كَوْنِهِ مِمَّا لَا يُسَاعِدُهُ عِبَارَةُ الْمُصَنِّفِ أَصْلًا لَيْسَ بِسَدِيدٍ هَاهُنَا.
أَمَّا أَوَّلًا: فَلِأَنَّهُ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ بِأَنَّ التَّصْدِيقَ يَثْبُتُ بِنَفْسِ الْإِرْثِ حَتَّى يَتِمَّ أَنْ يُقَالَ فِي الْجَوَابِ عَنْهُ: لَا يُمْكِنُ أَنْ يَثْبُتَ التَّصْدِيقُ بِالْإِرْثِ لِثُبُوتِ الْإِرْثِ بِهِ، بَلْ قِيلَ: صِحَّةُ التَّصْدِيقِ بِاعْتِبَارِ مُصَادَفَتِهِ وَقْتَ الْإِرْثِ الَّذِي هُوَ مِنْ آثَارِ النِّكَاحِ، وَلَا يُنَافِيهِ ثُبُوتُ نَفْسِ الْإِرْثِ بِالتَّصْدِيقِ.
وَأَمَّا ثَانِيًا: فَلِأَنَّ ذَلِكَ يَنْتَقِضُ بِمَا إِذَا كَانَ التَّصْدِيقُ قَبْلَ مَوْتِهَا، فَإِنَّهُ يَصِحُّ اتِّفَاقًا لِمُصَادَفَتِهِ وَقْتَ ثُبُوتِ النِّكَاحِ مَعَ أَنَّهُ يَجْرِي أَنْ يُقَالَ: إِنَّ التَّصْدِيقَ هُوَ الْمُوجِبُ لِثُبُوتِ النِّكَاحِ، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَثْبُتَ بِثُبُوتِ النِّكَاحِ.
وَأَمَّا ثَالِثًا: فَلِأَنَّهُ يَلْزَمُ حِينَئِذٍ أَنْ يَكُونَ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ: لِأَنَّهُ مَعْدُومٌ حَالَةَ الْإِقْرَارِ، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ بَعْدَ الْمَوْتِ ضَائِعًا مُسْتَدْرِكًا لِجَرَيَانِ ذَلِكَ الْمَعْنَى، وَإِنْ فُرِضَ أَنَّ الْإِرْثَ مَوْجُودٌ حَالَةَ الْإِقْرَارِ ثَابِتٌ قَبْلَ الْمَوْتِ، تَدَبَّرْ.
وَقَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: وَلِقَائِلٍ أَنْ يُعَارِضَ فَيَقُولَ: لَا يَصِحُّ التَّصْدِيقُ عَلَى اعْتِبَارِ الْعِدَّةِ؛ لِأَنَّهَا مَعْدُومَةٌ حَالَةَ الْإِقْرَارِ، وَإِنَّمَا تَثْبُتُ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَالتَّصْدِيقُ يَسْتَنِدُ إِلَى أَوَّلِ الْإِقْرَارِ، وَيُفَسَّرُ بِمَا ذَكَرْتُمْ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّ الْعِدَّةَ لَازِمَةٌ لِلْمَوْتِ عَنْ نِكَاحٍ بِالْإِجْمَاعِ، فَجَازَ أَنْ يُعْتَبَرَ النِّكَاحُ الْمُعَايِنُ قَائِمًا بِاعْتِبَارِهِمَا، فَكَذَا الْمُقَرُّ بِهِ، وَأَمَّا الْإِرْثُ فَلَيْسَ بِلَازِمٍ لَهُ لِجَوَازِ أَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ كِتَابِيَّةً فَلَمْ يُعْتَبَرْ قَائِمًا بِاعْتِبَارِهِ، انْتَهَى كَلَامُهُ.
أَقُولُ: جَوَابُهُ لَيْسَ بِتَامٍّ؛ لِأَنَّ الْعِدَّةَ أَيْضًا غَيْرُ لَازِمَةٍ لِلْمَوْتِ عَنْ نِكَاحٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لِجَوَازِ أَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ ذِمِّيَّةً مَاتَ عَنْهَا زَوْجُهَا الذِّمِّيُّ، أَوْ تَكُونَ حَرْبِيَّةً خَرَجَتْ إِلَيْنَا مُسْلِمَةً أَوْ ذِمِّيَّةً أَوْ مُسْتَأْمِنَةً أَوْ صَارَتْ ذِمِّيَّةً، فَإِنَّهُ لَا عِدَّةَ عَلَيْهَا فِي هَذِهِ الصُّورَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ﵀ إِذَا لَمْ تَكُنْ حَامِلًا، كَمَا تَقَرَّرَ فِي مَحَلِّهِ، وَالْمُعَارَضَةُ الْمَذْكُورَةُ إِنَّمَا تَرُدُّ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، فَالْجَوَابُ الْمَزْبُورُ لَا يَدْفَعُهَا عَلَى أَصْلِهِ.
ثُمَّ إِنَّ بَعْضَ الْعُلَمَاءِ قَالَ بَعْدَ نَقْلِ مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي هَذَا الْمَقَامِ: الظَّاهِرُ أَنًّ مُرَادَ صَاحِبِ الْهِدَايَةِ أَنَّ التَّصْدِيقَ يَسْتَنِدُ إِلَى حَالَةِ الْإِقْرَارِ، وَفِي تِلْكَ الْحَالَةِ لَا يَجِبُ الْإِرْثُ بَلْ هُوَ حُكْمٌ يَجِبُ وَيَثْبُتُ بَعْدَ الْمَوْتِ، فَمَتَى صَحَّحْنَا الْإِقْرَارَ صَحَّحْنَا لِإِثْبَاتِ الْإِرْثِ ابْتِدَاءً، فَيَكُونُ التَّصْدِيقُ وَاقِعًا فِي شَيْءٍ، وَهُوَ فِي الْحَالِ مَعْدُومٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَهُوَ النِّكَاحُ، وَأُشِيرَ إِلَى هَذَا فِي النِّهَايَةِ، فَلَا تَرِدُ الْمُعَارَضَةُ أَصْلًا؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْعِدَّةِ ثَابِتٌ قَبْلَ الْمَوْتِ فَلَا يَكُونُ التَّصْدِيقُ وَاقِعًا فِي نِكَاحٍ مَعْدُومٍ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، إِلَى هَاهُنَا كَلَامُهُ.
أَقُولُ: نَعَمْ، أُشِيرَ إِلَى ذَلِكَ الْمَعْنَى فِي النِّهَايَةِ وَغَيْرِهَا، وَلَكِنْ قَوْلُهُ: فَلَا تَرُدُّ الْمُعَارَضَةُ أَصْلًا مَمْنُوعٌ، قَوْلُهُ: لِأَنَّ وُجُوبَ الْعِدَّةَ ثَابِتٌ قَبْلَ الْمَوْتِ إِنْ أَرَادَ بِهِ أَنَّ وُجُوبَهَا ثَابِتٌ قَبْلَ الْمَوْتِ فِي الْمُعْتَدَّةِ بِالطَّلَاقِ فَمُسَلَّمٌ، لَكِنَّ ذَلِكَ لَا يُجْدِي نَفْعًا؛ إِذِ الْكَلَامُ فِي الْمُعْتَدَّةِ بِالْمَوْتِ، وَإِنْ أَرَادَ بِهِ أَنَّ وُجُوبَهَا ثَابِتٌ قَبْلَ الْمَوْتِ فِي الْمُعْتَدَّةِ بِالْمَوْتِ أَيْضًا فَمَمْنُوعٌ، بَلْ وُجُوبُهَا فِي الْمُعْتَدَّةِ بِالْمَوْتِ بَعْدَ الْمَوْتِ، كَمَا لَا يَخْفَى وَصَرَّحَ بِهِ فِي النِّهَايَةِ وَغَيْرِهَا.
وَقَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ: هَذِهِ الْمُعَارَضَةُ مَدْفُوعَةٌ عَنِ الْمُصَنِّفِ؛ فَإِنَّهُ لَمْ يُعَيِّنَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ حُكْمِ النِّكَاحِ فِي قَوْلِهِ: حُكْمُ النِّكَاحِ بَاقٍ، هُوَ الْعِدَّةُ، فَلَعَلَّهُ أَرَادَ بِهِ مِثْلَ حُرْمَةِ التَّزَوُّجِ بِزَوْجٍ آخَرَ وَحِلِّ غَسْلِهَا؛ فَإِنَّهُ ثَابِتٌ فِي حَالِ النِّكَاحِ أَيْضًا، وَلَوْ عَيَّنَهُ لَأَمْكَنَ أَنْ يُقَالَ: أَرَادَ بِالْعِدَّةِ مَا يُلَازِمُهَا مِنْ أَمْثَالِ مَا ذَكَرْنَا مَجَازًا، فَلَا إِشْكَالَ، انْتَهَى كَلَامُهُ.
أَقُولُ: مَا ذَكَرَهُ مِنْ مِثْلِ حُرْمَةِ التَّزَوُّجِ بِزَوْجٍ آخَرَ وَحِلِّ غَسْلِهَا لَيْسَ بِحُكْمٍ مُسْتَقِلٍّ لِلنِّكَاحِ بَعْدَ الْمَوْتِ بَلْ هُوَ مِنْ مُتَفَرِّعَاتَ الْعِدَّةِ، كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى الْعَارِفِ بِالْفِقْهِ، فَإِذَا لَمْ يَصِحَّ التَّصْدِيقُ عَلَى اعْتِبَارِ الْعِدَّةِ لَمْ يَصِحَّ ذَلِكَ عَلَى اعْتِبَارِ مَا هُوَ مُتَفَرِّعٌ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ سُقُوطَ الْأَصْلِ عَنْ حَيِّزِ الِاعْتِبَارِ يَقْتَضِي سُقُوطَ الْفَرْعِ عَنْ حَيِّزِ ذَلِكَ أَيْضًا فَالْإِشْكَالُ بَاقٍ.
فَإِنْ قِيلَ: إِذَا أَقَرَّ رَجُلٌ لِرَجُلٍ بِعَبْدٍ، فَمَاتَ الْعَبْدُ وَتَرَكَ كَسْبًا اكْتَسَبَهُ بَعْدَ الْإِقْرَارِ، ثُمَّ صَدَّقَهُ الْمُقَرُّ لَهُ اسْتَحَقَّ الْكَسْبَ وَالْإِرْثَ فِي مَسْأَلَتِنَا كَذَلِكَ.
قُلْنَا: الْكَسْبُ يَقَعُ مِلْكًا مِنْ الِابْتِدَاءِ لِمَالِكِ الرَّقَبَةِ؛ لِأَنَّهُ فِي حُكْمِ الْمَنْفَعَةِ. وَمَنْ مَلَكَ رَقَبَةً مَلَكَ مَنَافِعَهَا حُكْمًا لَهَا، فَيَصِيرُ الْإِقْرَارً بِالْعَبْدِ إِقْرَارًا بِأَنَّ الْكَسْبَ لِلْمُقَرِّ لَهُ، فَيَصِيرُ قِيَامُهُ بِمَنْزِلَةِ قِيَامِ الْعَبْدِ، فَأَمَّا الْإِرْثُ فَإِنَّمَا يَثْبُتُ بَعْدَ مَوْتِ الْمَرْأَةِ عَلَى سَبِيلِ الْخِلَافَةِ عَنْهَا بِسَبَبِ الزَّوْجِيَّةِ لَا بِحُكْمِ الْإِقْرَارِ، وَالْمُسْتَحِقُّ عَلَيْهَا بِالنِّكَاحِ يَفُوتُ بِمَوْتِهَا، فَيَبْقَى تَصْدِيقُهَا بَعْدَ ذَلِكَ دَعْوَى إِرْثٍ مُبْتَدَأٍ، كَذَا فِي الْأَسْرَارِ وَالْإِيضَاحِ وَغَيْرِهِمَا