وَأَمَّا الثَّانِي وَهُوَ جِنَايَةُ الْخَطَأِ فَلِأَنَّ مُوجِبَهَا الْمَالُ، فَيَصِيرُ بِمَنْزِلَةِ الْبَيْعِ، إِلَّا أَنَّهُ لَا تَصِحُّ الزِّيَادَةُ عَلَى قَدْرِ الدِّيَةِ؛ لِأَنَّهُ مُقَدَّرٌ شَرْعًا، فَلَا يَجُوزُ إِبْطَالُهُ فَتُرَدُّ الزِّيَادَةُ، بِخِلَافِ الصُّلْحِ عَنِ الْقِصَاصِ حَيْثُ تَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَى قَدْرِ الدِّيَةِ؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ لَيْسَ بِمَالٍ وَإِنَّمَا يَتَقَوَّمُ بِالْعَقْدِ، وَهَذَا إِذَا صَالَحَ عَلَى أَحَدِ مَقَادِيرِ الدِّيَةِ، أَمَّا إِذَا صَالَحَ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ جَازَ لِأَنَّهُ مُبَادَلَةٌ بِهَا، إِلَّا أَنَّهُ يُشْتَرَطُ الْقَبْضُ فِي الْمَجْلِسِ كَيْ لَا يَكُونَ افْتِرَاقًا عَنْ دَيْنٍ بِدَيْنٍ. وَلَوْ قَضَى الْقَاضِي بِأَحَدِ مَقَادِيرِهَا فَصَالَحَ عَلَى جِنْسٍ آخَرَ مِنْهَا بِالزِّيَادَةِ جَازَ؛ لِأَنَّهُ تَعَيَّنَ الْحَقُّ بِالْقَضَاءِ فَكَانَ مُبَادَلَةً، بِخِلَافِ الصُّلْحِ ابْتِدَاءً؛ لِأَنَّ تَرَاضِيَهُمَا عَلَى بَعْضِ الْمَقَادِيرِ بِمَنْزِلَةِ الْقَضَاءِ فِي حَقِّ التَّعْيِينِ فَلَا تَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَى مَا تَعَيَّنَ.
أَوْ عَلَى مَا فِي بَطْنِ أَمَتِهِ أَوْ عَلَى غَلَّةِ نَخْلِهِ سِنِينَ مَعْلُومَةً لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَصْلُحْ صَدَاقًا، فَكَذَا بَدَلًا فِي الصُّلْحِ، انْتَهَى.
أَقُولُ: فِيهِ بَحْثٌ؛ لِأَنَّ تَعْلِيلَهُمْ عَدَمَ جَوَازِ الصُّلْحِ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ عَلَى الْأَشْيَاءِ الْمَذْكُورَةِ بِقَوْلِهِمْ: لِأَنَّهُ لَمْ يَصْلُحْ صَدَاقًا، فَكَذَا بَدَلًا فِي الصُّلْحِ، يُنَافِي قَوْلَهُمْ بِأَنَّ الْعَكْسَ هَاهُنَا غَيْرُ لَازِمٍ وَلَا مُلْتَزَمٍ؛ فَإِنَّ صِحَّةَ التَّعْلِيلِ بِمَا ذَكَرُوا يُبْتَنَى عَلَى لُزُومِ الْعَكْسِ وَالْتِزَامِهِ. فَالصَّوَابُ تَعْلِيلُ عَدَمِ جَوَازِ الصُّلْحِ فِي تِلْكَ الصُّوَرِ بِجَهَالَةِ الْمَصَالَحِ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ؛ لِئَلَّا يَصْلُحَ صَدَاقًا فَإِنَّ جَهَالَتَهُ تُفْسِدُ الصُّلْحَ فِيمَا احْتِيجَ فِيهِ إِلَى التَّسْلِيمِ وَالتَّسَلُّمِ، كَمَا تَقَرَّرَ فِيمَا مَرَّ.
وَقَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ فِي حَاشِيَتِهِ عَنْ قَوْلِ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ: وَلَا يُتَوَهَّمُ لُزُومُ الْعَكْسِ؛ فَإِنَّهُ غَيْرُ لَازِمٍ وَلَا مُلْتَزَمٍ، لَكِنْ قَالَ فِي الْمُحِيطِ: إِذَا صَالَحَهُ عَلَى وَصَيْفٍ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ فَهُوَ جَائِزٌ، وَالْأَصْلُ فِي جِنْسِ شَرْعِ الْمَسَائِلِ أَنَّ مَا صَلَحَ مَهْرًا فِي النِّكَاحِ صَلَحَ بَدَلًا فِي الصُّلْحِ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ وَمَا لَا فَلَا، وَالْوَصِيفُ يَصْلُحُ مَهْرًا فِي النِّكَاحِ وَيَصْرِفُ مُطْلَقَهُ إِلَى الْوَسَطِ فَكَذَا يَصْلُحُ بَدَلًا فِي الصُّلْحِ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ، وَمُطَلَقُهُ يَنْصَرِفُ إِلَى الْوَسَطِ، انْتَهَى.
وَالْمَقْصُودُ قَوْلُهُ: وَمَا لَا فَلَا، فَلْيَتَأَمَّلْ، فَإِنَّ فِيهِ مُخَالَفَةً أُخْرَى لِقَوْلِهِ عِنْدَ فَسَادِ التَّسْمِيَةِ: يُصَارُ إِلَى الدِّيَةِ، إِلَى هُنَا كَلَامُ ذَلِكَ الْبَعْضِ.
أَقُولُ: لَا مُخَالَفَةَ فِيهِ لِقَوْلِهِ عِنْدَ فَسَادِ التَّسْمِيَةِ: يُصَارُ إِلَى الدِّيَةِ؛ إِذْ لَا فَسَادَ فِي التَّسْمِيَةِ فِيمَا قَالَهُ صَاحِبُ الْمُحِيطِ؛ لِأَنَّ فَسَادَ التَّسْمِيَةِ بِجَهَالَةٍ فَاحِشَةٍ وَلَيْسَ فِي الْوَصِيفِ جَهَالَةٌ فَاحِشَةٌ سِيَّمَا إِذَا انْصَرَفَ مُطَلَقُهُ إِلَى الْوَسَطِ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ، وَلِهَذَا يَصْلُحُ مَهْرًا فِي النِّكَاحِ، وَهَذَا أَمْرٌ لَا سُتْرَةَ بِهِ.
(قَوْلُهُ: وَأَمَّا الثَّانِي وَهُوَ جِنَايَةُ الْخَطَأِ فَلِأَنَّ مُوجِبَهَا الْمَالُ، فَيَصِيرُ بِمَنْزِلَةِ الْبَيْعِ).
أَقُولُ: فِيهِ شَيْءٌ وَهُوَ أَنَّهُمْ صَرَّحُوا بِأَنَّ الصُّلْحَ إِذَا كَانَ عَلَى جِنْسِ مَا اسْتَحَقَّهُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute