وَعَلَيْهِ أَلْفٌ أُخْرَى بَيْنَهُمَا) وَشَرْحُ ذَلِكَ أَنَّ دَعْوَى كُلِّ وَاحِدٍ صَحِيحَةٌ لِاحْتِمَالِهَا الصِّدْقَ فَيَسْتَحِقُّ الْحَلِفَ عَلَى الْمُنْكِرِ بِالْحَدِيثِ وَيَحْلِفُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الِانْفِرَادِ لِتَغَايُرِ الْحَقَّيْنِ، وَبِأَيِّهِمَا بَدَأَ الْقَاضِي جَازَ لِتَعَذُّرِ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا وَعَدَمِ الْأَوْلَوِيَّةِ.
وَلَوْ تَشَاحَّا أَقْرَعَ بَيْنَهُمَا تَطْيِيبًا لِقَلْبِهِمَا وَنَفْيًا لِتُهْمَةِ الْمَيْلِ، ثُمَّ إِنْ حَلَفَ لِأَحَدِهِمَا يَحْلِفُ لِلثَّانِي، فَإِنْ حَلَفَ فَلَا شَيْءَ لَهُمَا لِعَدَمِ الْحُجَّةِ، وَإِنْ نَكَلَ أَعْنِي لِلثَّانِي يَقْضِي لَهُ لِوُجُودِ الْحُجَّةِ، وَإِنْ نَكَلَ لِلْأَوَّلِ يَحْلِفُ لِلثَّانِي وَلَا يَقْضِي بِالنُّكُولِ، بِخِلَافِ مَا إِذَا أَقَرَّ لِأَحَدِهِمَا لِأَنَّ الْإِقْرَارَ حُجَّةٌ مُوجِبَةٌ بِنَفْسِهِ فَيَقْضِي بِهِ، أَمَّا النُّكُولُ إِنَّمَا يَصِيرُ حُجَّةً عِنْدَ الْقَضَاءِ فَجَازَ أَنْ يُؤَخِّرَهُ لِيَحْلِفَ لِلثَّانِي
عَنْهُ: وَالْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمَا لَوْ كَانَ فِي أَيْدِيهِمَا كَانَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَأْخُذَ نَصِيبَهُ نَقُولُ: لَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَأْخُذَ نَصِيبَهُ مِنْ الْمُودَعِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْغَرِيمَ إذَا أَخَذَ مِنْ مَالِ غَرِيمِهِ جِنْسَ حَقِّهِ جَازَ وَلَا يُجْبَرُ عَلَى الرَّدِّ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَأْخُذَ حَقَّهُ مِنْ مُودَعِ الْغَرِيمِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ كَمَا إذَا كَانَ لَهُ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَدِيعَةً عِنْدَ إنْسَانٍ وَعَلَيْهِ أَلْفٌ لِغَيْرِهِ فَلِغَرِيمِهِ أَنْ يَأْخُذَهُ إذَا ظَفِرَ بِهِ وَلَيْسَ لِلْمُودَعِ أَنْ يَدْفَعَهُ إلَيْهِ، إلَى هُنَا كَلَامُ ذَلِكَ الشَّارِحِ.
أَقُولُ: فَعَلَى هَذَا الِاسْتِخْرَاجِ يَتَمَشَّى هَذَا الْجَوَابُ عَلَى كِلْتَا الرِّوَايَتَيْنِ، وَلَكِنْ لَا يَخْفَى عَلَى مَنْ لَهُ دُرْبَةٌ بِأَسَالِيبِ الْكَلَامِ أَنَّ تَقْرِيرَ الْمُصَنِّفِ لَا يُسَاعِدُ ذَلِكَ جِدًّا. تَبَصَّرْ
(قَوْلُهُ وَشَرْحُ ذَلِكَ أَنَّ دَعْوَى كُلِّ وَاحِدٍ صَحِيحَةٌ) أَيْ عَلَى سَبِيلِ الِانْفِرَادِ دُونَ الِاجْتِمَاعِ لِاسْتِحَالَةِ أَنْ يَكُونَ الْأَلْفُ الْوَاحِدُ مُودَعًا عِنْدَ اثْنَيْنِ بِكَمَالِهِ، كَذَا فِي الْكِفَايَةِ وَشَرْحِ تَاجِ الشَّرِيعَةِ وَهُوَ الْحَقُّ عِنْدِي فِي مَعْنَى الْمَقَامِ، فَيَتِمُّ التَّعْلِيلُ حِينَئِذٍ بِقَوْلِهِ لِاحْتِمَالِهَا الصِّدْقَ بِلَا كُلْفَةٍ أَصْلًا. وَأَمَّا بَعْضُ الْفُضَلَاءِ فَقَدْ قَصَدَ تَوْجِيهَ الْمَقَامِ بِالْحَمْلِ عَلَى صِحَّةِ دَعْوَاهُمَا عَلَى سَبِيلِ الِاجْتِمَاعِ حَيْثُ قَالَ فِي بَيَانِهِ: بِأَنْ يُودِعَهُ أَحَدُهُمَا فَيَشْتَرِيَ الْمُودَعُ بِهِ سِلْعَةً مِنْ الْآخَرِ وَيُسَلِّمَهُ إلَيْهِ مِنْ ثَمَنِهِ فَيَقْبِضَهُ ثُمَّ يُودِعَهُ أَيْضًا انْتَهَى. أَقُولُ: لَيْسَ هَذَا بِشَيْءٍ، لِأَنَّ مَا ذُكِرَ فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ مِنْ قَوْلِهِ فَادَّعَاهَا رَجُلَانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَّهَا لَهُ أَوْدَعَهَا إيَّاهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ادَّعَى أَنَّهَا مِلْكٌ لَهُ فِي الْحَالِ أَوْدَعَهَا إيَّاهُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْعَيْنَ الْوَاحِدَ لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ مِلْكًا لِاثْنَيْنِ بِكَمَالِهِ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ، وَلَا أَنْ يَكُونَ مُودَعًا مِنْ اثْنَيْنِ بِكَمَالِهِ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ، وَفِي الصُّورَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا ذَلِكَ الْقَائِلُ قَدْ زَالَ إيدَاعُ أَحَدِهِمَا الْأَلْفِ مِمَّنْ هِيَ فِي يَدِهِ وَزَالَ مِلْكُهُ عَنْهَا أَيْضًا بِاشْتِرَائِهِ بِهَا سِلْعَةً مِنْ الْآخَرِ وَتَسْلِيمِهَا إلَيْهِ، فَكَيْفَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَصْدُقَا مَعًا فِي دَعْوَاهُمَا الْمَزْبُورَةِ.
(قَوْلُهُ وَيَحْلِفُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الِانْفِرَادِ لِتَغَايُرِ الْحَقَّيْنِ) قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ الشُّرَّاحِ فِي تَعْلِيلِ تَغَايُرِ الْحَقَّيْنِ: لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَدَّعِي أَلْفًا. أَقُولُ: يَرِدُ عَلَيْهِ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إنَّمَا يَدَّعِي أَلْفًا مُعَيَّنًا وَهُوَ مَا فِي يَدِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي وَضْعِ الْمَسْأَلَةِ، وَالنُّقُودُ تَتَعَيَّنُ فِي الْوَدَائِعِ عَلَى مَا تَقَرَّرَ فِي مَوْضِعِهِ وَنَصَّ عَلَيْهِ الزَّيْلَعِيُّ فِي شَرْحِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي التَّبْيِينِ، فَمِنْ أَيْنَ يَدُلُّ هَذَا عَلَى تَغَايُرِ الْحَقَّيْنِ.
ثُمَّ إنَّ بَعْضَ الْفُضَلَاءِ بَيَّنَ مُغَايَرَةَ الْحَقَّيْنِ بِنَهْجٍ آخَرَ حَيْثُ قَالَ: وَالظَّاهِرُ أَنَّ تَغَايُرَ الْحَقِّ لِتَغَايُرِ الْمُسْتَحِقِّ فَلِكُلٍّ مِنْهُمَا حَقٌّ فِي يَمِينِهِ عَلَى مَا مَرَّ فِي الدَّعْوَى مِنْ قَوْلِهِ ﵊ «لَك يَمِينُهُ» انْتَهَى. أَقُولُ: لَيْسَ هَذَا بِمُفِيدٍ هَاهُنَا، لِأَنَّ مَا يَقْتَضِيهِ أَنْ يَكُونَ لِكُلٍّ مِنْهُمَا حَقٌّ فِي يَمِينِهِ إنَّمَا هُوَ عَدَمُ الِاكْتِفَاءِ لِتَحْلِيفِهِ لِأَحَدِهِمَا فَقَطْ، وَهَذَا لَا يَسْتَلْزِمُ تَحْلِيفَهُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الِانْفِرَادِ كَمَا هُوَ الْمَطْلُوبُ هَاهُنَا، بَلْ يَحْصُلُ بِتَحْلِيفِهِ لَهُمَا مَعًا، وَإِنَّمَا الَّذِي يَقْتَضِي تَحْلِيفَهُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الِانْفِرَادِ أَمْرٌ وَرَاءَ أَنْ يَكُونَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَقٌّ فِي يَمِينِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُمَا لَوْ ادَّعَيَا مِنْ أَحَدٍ شَيْئًا وَاحِدًا مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا عَلَى سَبِيلِ الشُّيُوعِ كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَقٌّ فِي يَمِينِهِ قَطْعًا مَعَ أَنَّهُ لَا يَجِبُ هُنَاكَ تَحْلِيفُهُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الِانْفِرَادِ.
وَالْأَظْهَرُ فِي تَعْلِيلِهِ أَنْ يَحْلِفَ هَاهُنَا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الِانْفِرَادِ مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْكَافِي حَيْثُ قَالَ: وَإِنَّمَا يَحْلِفُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِانْفِرَادِهِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ادَّعَاهُ بِانْفِرَادِهِ انْتَهَى، تَدَبَّرْ. (أَمَّا النُّكُولُ إنَّمَا يَصِيرُ حُجَّةً عِنْدَ الْقَضَاءِ فَجَازَ أَنْ يُؤَخِّرَهُ لِيَحْلِفَ لِلثَّانِي
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute