كِتَابُ الْهِبَةِ
الْهِبَةُ عَقْدٌ مَشْرُوعٌ لِقَوْلِهِ ﵊ «تَهَادَوْا تَحَابُّوا» وَعَلَى ذَلِكَ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ (وَتَصِحُّ بِالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ وَالْقَبْضِ) أَمَّا الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ فَلِأَنَّهُ عَقْدٌ، وَالْعَقْدُ يَنْعَقِدُ بِالْإِيجَابِ، وَالْقَبُولِ، وَالْقَبْضُ لَا بُدَّ مِنْهُ لِثُبُوتِ الْمَلِكِ. وَقَالَ مَالِكٌ: يَثْبُتُ الْمِلْكُ فِيهِ قَبْلَ الْقَبْضِ اعْتِبَارًا
الْعَيْنِ مَعَ الْمَنْفَعَةِ. ثُمَّ مَحَاسِنُ الْهِبَةِ لَا تُحْصَى وَلَا تَخْفَى عَلَى ذَوِي النُّهَى. فَقَدْ وَصَفَ اللَّهُ تَعَالَى ذَاتَهُ بِالْوَهَّابِ فَقَالَ ﴿إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ﴾ وَهَذَا يَكْفِي لِمَحَاسِنِهَا. ثُمَّ إنَّ الْهِبَةَ فِي اللُّغَةِ أَصْلُهَا مِنْ الْوَهْبِ، وَالْوَهْبُ بِتَسْكِينِ الْهَاءِ وَتَحْرِيكِهَا، وَكَذَلِكَ فِي كُلِّ مُعْتَلِّ الْفَاءِ كَالْوَعْدِ وَالْعِدَّةِ وَالْوَعْظِ وَالْعِظَةِ فَكَانَتْ مِنْ الْمَصَادِرِ الَّتِي تُحْذَفُ أَوَائِلُهَا وَيُعَوَّضُ فِي أَوَاخِرِهَا التَّاءُ، وَمَعْنَاهَا: إيصَالُ الشَّيْءِ إلَى الْغَيْرِ بِمَا يَنْفَعُهُ سَوَاءٌ كَانَ مَالًا أَوْ غَيْرَ مَالٍ، يُقَالُ وَهَبَ لَهُ مَالًا وَهْبًا وَهِبَةً، وَيُقَالُ وَهَبَ اللَّهُ فُلَانًا وَلَدًا صَالِحًا، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى ﴿فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا﴾ ﴿يَرِثُنِي﴾ وَيُقَالُ وَهَبَهُ مَالًا وَلَا يُقَالُ وَهَبَ مِنْهُ، وَيُسَمَّى الْمَوْهُوبُ هِبَةً وَمَوْهِبَةً وَالْجَمْعُ هِبَاتٌ وَمَوَاهِبُ، وَاتَّهَبَهُ مِنْهُ قِبَلَهُ وَاسْتَوْهَبَهُ طَلَبَ الْهِبَةَ، كَذَا فِي مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ وَغَيْرِهِ.
وَأَمَّا فِي الشَّرِيعَةِ فَهِيَ تَمْلِيكُ الْمَالِ بِلَا عِوَضٍ
كَذَا فِي عَامَّةِ الشُّرُوحِ بَلْ الْمُتُونِ. أَقُولُ: يَرُدُّ عَلَيْهِ النَّقْضُ عَكْسًا بِالْهِبَةِ بِشَرْطِ الْعِوَضِ كَمَا تَرَى، وَلَمْ أَرَ أَحَدًا مِنْ شُرَّاحِ الْكِتَابِ حَامَ حَوْلَ التَّعَرُّضِ لِلْجَوَابِ عَنْ هَذَا النَّقْضِ وَلَا لِإِيرَادِهِ مَعَ ظُهُورِ وُرُودِهِ جِدًّا، غَيْرَ أَنَّ صَاحِبَ الدُّرَرِ وَالْغُرَرِ قَصَدَ إلَى الْجَوَابِ عَنْهُ حَيْثُ قَالَ فِي مَتْنِهِ: هِيَ تَمْلِيكُ عَيْنٍ بِلَا عِوَضٍ. وَقَالَ فِي شَرْحِهِ: أَيْ بِلَا شَرْطِ عِوَضٍ؛ لِأَنَّ عَدَمَ الْعِوَضِ شَرْطٌ فِيهِ لِيَنْتَقِضَ بِالْهِبَةِ بِشَرْطِ الْعِوَضِ فَتَدَبَّرْ. اهـ كَلَامُهُ.
أَقُولُ: فِيهِ نَظَرٌ، إذْ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِمْ بِلَا عِوَضٍ فِي تَعْرِيفِ الْهِبَةِ مَعْنَى بِلَا شَرْطِ عِوَضٍ لِيَعُمَّ مَا كَانَ بِشَرْطِ الْعِوَضِ مِنْ الْهِبَةِ بِنَاءً عَلَى مَا تَقَرَّرَ فِي الْعُلُومِ الْعَقْلِيَّةِ مِنْ أَنَّ بِلَا شَرْطٍ شَيْءٌ أَعَمُّ مِنْ بِشَرْطِ شَيْءٍ، وَمِنْ بِشَرْطِ لَا شَيْءٍ لَكَانَ تَعْرِيفُ الْهِبَةِ صَادِقًا عَلَى الْبَيْعِ أَيْضًا كَمَا لَا يَخْفَى، فَلَزِمَ أَنْ يَنْتَقِضَ بِهِ طَرْدًا عَلَى عَكْسِ مَا فِي الْمَعْنَى الظَّاهِرِ فَلَا يَنْدَفِعُ الْمَحْذُورُ بِذَلِكَ بَلْ يَشْتَدُّ. ثُمَّ أَقُولُ: يُمْكِنُ الْجَوَابَ عَنْ أَصْلِ النَّقْضِ بِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِمْ بِلَا عِوَضٍ فِي تَعْرِيفِ الْهِبَةِ بِلَا اكْتِسَابِ عِوَضٍ، فَالْمَعْنَى أَنَّ الْهِبَةَ هِيَ تَمْلِيكُ الْمَالِ بِشَرْطِ عَدَمِ اكْتِسَابِ الْعِوَضِ فَلَا يُنْتَقَضُ بِالْهِبَةِ بِشَرْطِ الْعِوَضِ، فَإِنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ بِشَرْطِ الْعِوَضِ إلَّا أَنَّهَا لَيْسَتْ بِشَرْطِ الِاكْتِسَابِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ فَسَّرُوا الْبَيْعَ بِمُبَادَلَةِ الْمَالِ بِالْمَالِ بِطَرِيقِ الِاكْتِسَابِ، وَقَالُوا خَرَجَ بِقَوْلِنَا بِطَرِيقِ الِاكْتِسَابِ الْهِبَةُ بِشَرْطِ الْعِوَضِ. ثُمَّ أَقُولُ: بَقِيَ فِي التَّعْرِيفِ الْمَزْبُورِ شَيْءٌ وَهُوَ أَنَّهُ يَصْدُقُ عَلَى الْوَصِيَّةِ بِالْمَالِ، فَإِنَّهَا أَيْضًا تَمْلِيكُ الْمَالِ بِلَا اكْتِسَابِ عِوَضٍ فَلَمْ يَكُنْ مَانِعًا عَنْ دُخُولِ الْأَغْيَارِ، فَلَوْ زَادُوا قَيْدَ فِي الْحَالِ فَقَالُوا: هِيَ تَمْلِيكُ الْمَالِ بِلَا عِوَضٍ فِي الْحَالِ لَخَرَجَ ذَلِكَ، فَإِنَّ الْوَصِيَّةَ تَمْلِيكٌ بَعْدَ الْمَوْتِ لَا فِي الْحَالِ.
(قَوْلُهُ: وَتَصِحُّ بِالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ إلَخْ) قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ: أَيْ تَصِحُّ بِالْإِيجَابِ وَحْدَهُ فِي حَقِّ الْوَاهِبِ، وَبِالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ فِي حَقِّ الْمَوْهُوبِ لَهُ؛ لِأَنَّ الْهِبَةَ عَقْدُ تَبَرُّعٍ فَيَتِمُّ بِالْمُتَبَرِّعِ فَصَارَ هُوَ عِنْدَنَا بِمَنْزِلَةِ الْإِقْرَارِ وَالْوَصِيَّةِ، وَلَكِنْ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute