قَالَ: (وَتَنْعَقِدُ الْهِبَةُ بِقَوْلِهِ وَهَبْت وَنَحَلْت وَأَعْطَيْت)؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ صَرِيحٌ فِيهِ وَالثَّانِي مُسْتَعْمَلٌ فِيهِ. قَالَ ﵊ «أَكُلَّ أَوْلَادِك نَحَلْتَ مِثْلَ هَذَا؟» وَكَذَلِكَ الثَّالِثُ، يُقَالُ: أَعْطَاك اللَّهُ وَوَهَبَك اللَّهُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ (وَكَذَا تَنْعَقِدُ بِقَوْلِهِ أَطْعَمْتُك هَذَا الطَّعَامَ وَجَعَلْت هَذَا الثَّوْبَ لَك وَأَعْمَرْتُكَ هَذَا الشَّيْءَ وَحَمَلْتُك عَلَى هَذِهِ الدَّابَّةِ إذَا نَوَى بِالْحُمْلَانِ الْهِبَةَ) أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ الْإِطْعَامَ إذَا أُضِيفَ إلَى مَا يُطْعَمُ عَيْنُهُ يُرَادُ بِهِ تَمْلِيكُ الْعَيْنِ،
فِي الْبَيْعِ مِنْ حَيْثُ إنَّ حُكْمَ الْعَقْدِ، وَهُوَ الْمِلْكُ يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ فِي الْهِبَةِ كَمَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْقَبُولِ فِي الْبَيْعِ كَمَا تَقَرَّرَ فِيمَا مَرَّ آنِفًا لَا مِنْ جَمِيعِ الْحَيْثِيَّاتِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْقَبْضَ فِي الْهِبَةِ لَيْسَ بِرُكْنِ الْعَقْدِ بَلْ هُوَ خَارِجٌ عَنْهُ شَرْطٌ لِثُبُوتِ الْمِلْكِ، بِخِلَافِ الْقَبُولِ فِي الْبَيْعِ فَإِنَّهُ رُكْنٌ دَاخِلٌ لَا يَتِمُّ الْعَقْدُ بِدُونِهِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ أَنْ يَتَقَيَّدَ الْقَبُولُ بِالْمَجْلِسِ أَنْ يَتَقَيَّدَ مَا يَلْحَقُ بِهِ مِنْ الْحَيْثِيَّةِ الْمَذْكُورَةِ بِالْمَجْلِسِ أَيْضًا، فَإِنَّ تَقْيِيدَ الْقَبُولِ بِالْمَجْلِسِ مِنْ أَحْكَامِ كَوْنِهِ رُكْنًا دَاخِلًا فِي الْعَقْدِ، وَلِهَذَا لَا يَصِحُّ الْقَبُولُ بَعْدَ الْمَجْلِسِ بِأَمْرِ الْبَائِعِ أَيْضًا فَلَا يَتَعَدَّى إلَى مَا لَيْسَ بِرُكْنٍ دَاخِلٍ فِي الْعَقْدِ وَهُوَ الْقَبْضُ، وَإِنْ كَانَ مُلْحَقًا بِالْقَبُولِ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ لِثُبُوتِ حُكْمِ الْعَقْدِ، وَإِلَّا يَلْزَمُ أَنْ لَا يَصِحَّ الْقَبْضُ بَعْدَ الْمَجْلِسِ بِالْإِذْنِ أَيْضًا فَتَأَمَّلْ.
وَالْأَوْلَى فِي تَقْرِيرِ وَجْهِ الِاسْتِحْسَانِ فِي مَسْأَلَتِنَا هَذِهِ مَا ذَكَرَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ فِي مَبْسُوطِهِ وَنَقَلَ عَنْهُ صَاحِبُ الْغَايَةِ، وَهُوَ أَنَّهُ لَا بُدَّ لِبَقَاءِ الْإِيجَابِ عَلَى الصِّحَّةِ مِنْ الْقَبْضِ؛ لِأَنَّ الْقَبْضَ مَتَى فَاتَ بِالْهَلَاكِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ لَا يَبْقَى الْإِيجَابُ صَحِيحًا، وَإِذَا كَانَ مِنْ ضَرُورَةِ بَقَاءِ الْإِيجَابِ مِنْ الْوَاهِبِ عَلَى الصِّحَّةِ وُجُودُ الْقَبْضِ لَا مَحَالَةَ كَانَ الْإِقْدَامُ عَلَى الْإِيجَابِ لَهُ إذْنًا لِلْمَوْهُوبِ لَهُ بِالْقَبْضِ اقْتِضَاءً كَمَا فِي بَابِ الْبَيْعِ جَعَلْنَا إقْدَامَ الْبَائِعِ عَلَى الْإِيجَابِ إذْنًا لِلْمُشْتَرِي بِالْقَبُولِ مُقْتَضِيًا بَقَاءِ الْإِيجَابِ عَلَى الصِّحَّةِ، إلَّا أَنَّ مَا ثَبَتَ اقْتِضَاءً يَثْبُتُ ضَرُورَةً، وَالثَّابِتُ بِالضَّرُورَةِ يَتَقَدَّرُ بِقَدْرِ الضَّرُورَةِ، وَالضَّرُورَةُ تَرْتَفِعُ بِثُبُوتِ الْإِذْنِ فِي الْمَجْلِسِ؛ لِأَنَّ الْإِيجَابَ يَبْقَى صَحِيحًا مَتَى قَبَضَ فِي الْمَجْلِسِ فَلَا يُعْتَبَرُ ثَابِتًا فِيمَا وَرَاءَ الْمَجْلِسِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ ثَبَتَ نَصًّا؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ نَصًّا ثَابِتٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَيَثْبُتُ فِي الْمَجْلِسِ وَبَعْدَ الْمَجْلِسِ. انْتَهَى.
(قَوْلُهُ: أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ الْإِطْعَامَ إذَا أُضِيفَ إلَى مَا يُطْعَمُ عَيْنُهُ يُرَادُ بِهِ تَمْلِيكُ الْعَيْنِ) قَالَ صَاحِبُ غَايَةِ الْبَيَانِ: وَلَنَا فِي تَقْرِيرِ صَاحِبِ الْهِدَايَةِ نَظَرٌ،
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute