بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ: أَطْعَمْتُك هَذِهِ الْأَرْضَ حَيْثُ تَكُونُ عَارِيَّةً؛ لِأَنَّ عَيْنَهَا لَا تُطْعَمُ فَيَكُونُ الْمُرَادُ أَكْلَ غَلَّتِهَا. وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ حَرْفَ اللَّامِ لِلتَّمْلِيكِ. وَأَمَّا الثَّالِثُ فَلِقَوْلِهِ ﵊ «فَمَنْ أَعْمَرَ عُمْرَى فَهِيَ لِلْمُعَمَّرِ لَهُ وَلِوَرَثَتِهِ مِنْ بَعْدِهِ» وَكَذَا إذَا قَالَ جَعَلْت هَذِهِ الدَّارَ لَك عُمْرَى لِمَا قُلْنَا.
لِأَنَّهُ قَالَ: إنَّ الْإِطْعَامَ إذَا أُضِيفَ إلَى مَا يُطْعَمُ عَيْنُهُ يُرَادُ بِهِ تَمْلِيكُ الْعَيْنِ، فَعَلَى هَذَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ الْإِطْعَامِ فِي الْكَفَّارَةِ التَّمْلِيكَ لَا الْإِبَاحَةَ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الْخَصْمِ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ الْإِطْعَامِ إطْعَامُ الطَّعَامِ وَالطَّعَامُ يُؤْكَلُ عَيْنُهُ فَكَانَ الْإِطْعَامُ فِي الْآيَةِ مُضَافًا إلَى مَا يُطْعَمُ عَيْنُهُ فَافْهَمْ. انْتَهَى كَلَامُهُ.
أَقُولُ: يُمْكِنُ الْجَوَابُ عَنْ هَذَا النَّظَرِ بِأَنَّ مُرَادَ الْمُصَنِّفِ بِالْإِضَافَةِ إلَى مَا يُطْعَمُ عَيْنُهُ أَنْ يَذْكُرَ مَا يُطْعَمُ عَيْنُهُ وَيُجْعَلَ مَفْعُولًا ثَانِيًا لِلْإِطْعَامِ، وَفِي آيَةِ الْكَفَّارَةِ لَمْ يَكُنْ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، فَكَانَ الْإِطْعَامُ فِيهَا عَلَى أَصْلِ وَضْعِهِ وَهُوَ الْإِبَاحَةُ، وَيُرْشِدُك إلَى هَذَا التَّوْجِيهِ أَنَّهُ قَالَ فِي تَنْقِيحِ الْأُصُولِ فِي أَوَائِلِ التَّقْسِيمِ الرَّابِعِ: وَفِي قَوْله تَعَالَى ﴿إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ﴾ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ الْأَصْلَ فِيهِ هُوَ الْإِبَاحَةُ، وَالتَّمْلِيكُ مُلْحَقٌ بِهِ؛ لِأَنَّ الْإِطْعَامَ جَعْلُ الْغَيْرِ طَاعِمًا لَا جَعْلُهُ مَالِكًا، وَأَلْحَقَ بِهِ التَّمْلِيكَ دَلَالَةً؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ قَضَاءُ حَوَائِجِهِمْ، وَهِيَ كَثِيرَةٌ فَأُقِيمَ التَّمْلِيكُ مَقَامَهَا انْتَهَى. وَقَالَ فِي التَّلْوِيحِ: وَأَمَّا نَحْوُ أَطْعَمْتُك هَذَا الطَّعَامَ فَإِنَّمَا كَانَ هِبَةً وَتَمْلِيكًا بِقَرِينَةِ الْحَالِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَجْعَلْهُ طَاعِمًا. قَالُوا: وَالضَّابِطُ أَنَّهُ إذَا ذَكَرَ الْمَفْعُولَ الثَّانِيَ فَهُوَ لِلتَّمْلِيكِ، وَإِلَّا فَلِلْإِبَاحَةِ. انْتَهَى فَتَأَمَّلْ تَرْشُدْ.
ثُمَّ إنَّهُ قَدْ ذَكَرَ فِي الْمُحِيطِ الْبُرْهَانِيِّ نَقْلًا عَنْ الْأَصْلِ: وَإِذَا قَالَ أَطْعَمْتُك هَذِهِ الْأَرْضَ فَهُوَ عَارِيَّةٌ، وَلَوْ قَالَ أَطْعَمْتُك هَذَا الطَّعَامَ، فَإِنْ قَالَ فَاقْبِضْهُ فَهُوَ هِبَةٌ، وَإِنْ لَمْ يَقُلْ فَاقْبِضْهُ يَكُونُ هِبَةً أَوْ عَارِيَّةً انْتَهَى. أَقُولُ: لَا يَذْهَبُ عَلَى ذِي فِطْنَةٍ أَنَّ إطْلَاقَ رِوَايَةِ الْكِتَابِ وَتَعْلِيلَ الْمُصَنِّفِ بِمَا ذَكَرَ لَا يُطَابِقَانِ رِوَايَةَ الْأَصْلِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْهُمَا أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: أَطْعَمْتُك هَذَا الطَّعَامَ هِبَةً مُطْلَقًا، وَرِوَايَةُ الْأَصْلِ صَرِيحٌ فِي أَنَّ قَوْلَهُ الْمَذْكُورَ إنَّمَا يَكُونُ هِبَةً إذَا قَيَّدَهُ بِقَوْلِهِ فَاقْبِضْهُ، وَأَمَّا إذَا لَمْ يُقَيِّدْهُ بِذَلِكَ فَيَحْتَمِلُ الْأَمْرَيْنِ: أَيْ الْهِبَةَ وَالْعَارِيَّةَ، وَأَنَّ النَّظَرَ الْمَذْكُورَ لَا يَتَّجِهُ أَصْلًا عَلَى مَا فِي رِوَايَةِ الْأَصْلِ؛ لِأَنَّ التَّمْلِيكَ إنَّمَا يُسْتَفَادُ عَلَى هَاتِيك الرِّوَايَةِ مِنْ قَوْلِهِ فَاقْبِضْهُ لَا مِنْ لَفْظِ الْإِطْعَامِ، فَلَا يُنَافِي أَنْ يَكُونَ الْإِطْعَامُ فِي آيَةِ الْكَفَّارَةِ عَلَى أَصْلِ وَضْعِهِ، وَهُوَ الْإِبَاحَةُ.
(قَوْلُهُ: بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ أَطْعَمْتُك هَذِهِ الْأَرْضَ حَيْثُ تَكُونُ عَارِيَّةً؛ لِأَنَّ عَيْنَهَا لَا تُطْعَمُ فَيَكُونُ الْمُرَادُ إطْعَامَ غَلَّتِهَا) أَقُولُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: كَوْنُ الْأَرْضِ مِمَّا لَا يُطْعَمُ عَيْنُهُ إنَّمَا يَقْتَضِي أَنْ لَا يَكُونَ الْإِطْعَامُ الْمُضَافُ إلَيْهَا عَلَى حَقِيقَتِهِ، وَلَا يَقْتَضِي أَنْ لَا يُرَادَ بِهِ تَمْلِيكُ الْعَيْنِ مَجَازًا كَمَا أُرِيدَ بِهِ ذَلِكَ إذَا أُضِيفَ إلَى مَا يُطْعَمُ عَيْنُهُ فَإِنَّهُمْ حَمَلُوا هُنَاكَ عَلَى تَمْلِيكِ الْعَيْنِ مَعَ أَنَّ حَقِيقَةَ الْإِطْعَامِ جَعْلُ الْغَيْرِ طَاعِمًا: أَيْ آكِلًا لَا جَعْلُهُ مَالِكًا كَمَا صَرَّحُوا بِهِ.
وَالْجَوَابُ أَنَّهُ، وَإِنْ أَمْكَنَ أَنْ يُرَادَ بِالْإِطْعَامِ الْمُضَافِ إلَى مِثْلِ الْأَرْضِ تَمْلِيكَ الْعَيْنِ مَجَازًا لَكِنَّ هَذَا التَّجَوُّزَ لَيْسَ بِمُتَعَارَفٍ فِي مِثْلِ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا الْمُتَعَارَفُ أَنْ يُرَادَ إطْعَامُ الْغَلَّةِ عَلَى طَرِيقِ ذِكْرِ الْمَحَلِّ وَإِرَادَةِ الْحَالِ، كَمَا أَنَّ الْمُتَعَارَفَ فِيمَا إذَا أُضِيفَ الْإِطْعَامُ إلَى مَا يُطْعَمُ عَيْنُهُ أَنْ يُرَادَ بِهِ تَمْلِيكُ الْعَيْنِ، وَكَلَامُ الْعَاقِلِ إنَّمَا يَجِبُ حَمْلُهُ عَلَى الْمُتَعَارَفِ لَا عَلَى كُلِّ مَا احْتَمَلَهُ اللَّفْظُ تَدَبَّرْ. (قَوْلُهُ: وَكَذَا إذَا قَالَ جَعَلْت هَذِهِ الدَّارَ لَك عُمْرَى لِمَا قُلْنَا) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: قَوْلُهُ: لِمَا قُلْنَا إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ: فَلِأَنَّ حَرْفَ اللَّامِ لِلتَّمْلِيكِ، وَاقْتَفَى أَثَرَهُ الشَّارِحُ الْعَيْنِيُّ وَسَكَتَ غَيْرُهُمَا عَنْ الْبَيَانِ.
أَقُولُ: الظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ هَذَا إشَارَةٌ إلَى قَرِيبِهِ وَهُوَ قَوْلُهُ: فَلِقَوْلِهِ ﵊ «فَمَنْ أَعْمَرَ عُمْرَى فَهِيَ لِلْمُعَمَّرِ لَهُ وَلِوَرَثَتِهِ مِنْ بَعْدِهِ» وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا ذِكْرُ هَذِهِ الصُّورَةِ فِي ذَيْلِ الثَّالِثِ، إذْ لَوْ كَانَ مُرَادُهُ مَا قَالَهُ الشَّارِحَانِ الْمَزْبُورَانِ لَذَكَرَهَا فِي ذَيْلِ الثَّانِي، بَلْ لَوْ كَانَ مُرَادُهُ ذَلِكَ لَمَا ذَكَرَهَا أَصْلًا، إذْ قَدْ سَبَقَ ذِكْرُ مَا إذَا قَالَ جَعَلْت هَذَا الثَّوْبَ لَك وَهُوَ الَّذِي قَالَ لَهُ وَأَمَّا الثَّانِي، وَلَا يَرَى أَثَرَ فَرْقٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute