للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَمَا لَا يَصْلُحُ ثَمَنًا يَصْلُحُ أُجْرَةً أَيْضًا كَالْأَعْيَانِ.

فِي الْمَنَافِعِ الْمَعْدُومَةِ عَلَى أَصْلِ أَئِمَّتِنَا كَمَا فَصَّلَ فِي الْكَافِي وَسَائِرِ الشُّرُوحِ، سِيَّمَا فِي غَايَةِ الْبَيَانِ فَإِنَّهُ قَالَ فِيهَا: بَيَانُ مَا قُلْنَا هُوَ أَنَّ الْعَقْدَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مَحَلٍّ؛ لِأَنَّ الْمَحَلَّ شَرْطُ صِحَّةِ الْعَقْدِ؛ لِأَنَّ الْعُقُودَ لَا تَصِحُّ بِلَا مَحَلٍّ، وَلِهَذَا قَالَ الْفُقَهَاءُ: الْمَحَالُّ شُرُوطٌ، وَمَحَلُّ الْعَقْدِ هَاهُنَا هِيَ الْمَنَافِعُ وَهِيَ مَعْدُومَةٌ، وَلَا يَصْلُحُ الْمَعْدُومُ مَحَلًّا لِلْعَقْدِ فَجُعِلَتْ الدَّارُ مَحَلًّا لِلْعَقْدِ بِإِقَامَتِهَا مَقَامَ الْمَنَافِعِ الَّتِي سَتُوجَدُ؛ لِأَنَّ الدَّارَ مَحَلُّ الْمَنَافِعِ تَصْحِيحًا لِلْعَقْدِ حَتَّى يَرْتَبِطَ الْكَلَامَانِ وَهُمَا الْإِيجَابُ، وَالْقَبُولُ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ عَلَى وَجْهٍ يَكُونَانِ عِلَّةً صَالِحَةً فِي إفَادَةِ الْحُكْمِ وَهُوَ مِلْكُ الْمَنَافِعِ الَّتِي سَتُوجَدُ.

انْتَهَى فَتَدَبَّرْ.

(قَوْلُهُ: وَمَا لَا يَصْلُحُ ثَمَنًا يَصْلُحُ أُجْرَةً أَيْضًا كَالْأَعْيَانِ) أَيْ كَالْأَعْيَانِ الَّتِي لَيْسَتْ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ كَالْحَيَوَانِ، وَالثِّيَابِ مَثَلًا، فَإِنَّهَا إذَا كَانَتْ مُعَيَّنَةً صَلُحَ أَنْ تَكُونَ أُجْرَةً كَمَا إذَا اسْتَأْجَرَ دَارًا بِثَوْبٍ مُعَيَّنٍ، وَإِنْ كَانَ لَا يَصْلُحُ ثَمَنًا، لِمَا تَقَرَّرَ فِي الْبُيُوعِ أَنَّ الْأَمْوَالَ ثَلَاثَةٌ: ثَمَنٌ مَحْضٌ كَالدَّرَاهِمِ وَمَبِيعٌ مَحْضٌ كَالْأَعْيَانِ الَّتِي لَيْسَتْ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ وَمَا كَانَ بَيْنَهُمَا كَالْمَكِيلَاتِ، وَالْمَوْزُونَاتِ، كَذَا فِي الشُّرُوحِ. قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: وَفِيهِ نَظَرٌ، فَإِنَّ الْمُقَايَضَةَ بَيْعٌ وَلَيْسَ فِيهَا إلَّا الْعَيْنُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ، فَلَوْ لَمْ تَصْلُحْ الْعَيْنُ ثَمَنًا كَانَتْ بَيْعًا بِلَا ثَمَنٍ، وَهُوَ بَاطِلٌ.

وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّ النَّظَرَ عَلَى الْمِثَالِ لَيْسَ مِنْ دَأَبِ الْمُنَاظِرَيْنِ، فَإِذَا كَانَ الْأَصْلُ صَحِيحًا جَازَ أَنْ يُمَثَّلَ بِمِثَالٍ آخَرَ فَلْيُمَثَّلْ بِالْمَنْفَعَةِ فَإِنَّهَا تَصْلُحُ أُجْرَةً إذَا اخْتَلَفَ جِنْسُ الْمَنَافِعِ. كَمَا إذَا اسْتَأْجَرَ سُكْنَى دَارٍ بِرَكُوبِ دَابَّةٍ وَلَا تَصْلُحُ ثَمَنًا أَصْلًا، إلَى هُنَا كَلَامُهُ. أَقُولُ: لَا النَّظَرُ شَيْءٌ وَلَا الْجَوَابُ. أَمَّا النَّظَرُ فَلِأَنَّ مُرَادَ الْمُصَنِّفِ بِالثَّمَنِ هَاهُنَا مَا يَجِبُ فِي الذِّمَّةِ، وَعَنْ هَذَا تَرَى صَاحِبَ الْكَافِي وَكَثِيرًا مِنْ الشُّرَّاحِ يَقُولُونَ بَعْدَ قَوْلِهِمْ: لِأَنَّ الْأُجْرَةَ عِوَضٌ مَالِيٌّ فَيَعْتَمِدُ وُجُودَ الْمَالِ. وَأَمَّا الثَّمَنُ فَهُوَ مَا يَجِبُ فِي الذِّمَّةِ فَيَخْتَصُّ بِمَا يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ. وَلَقَدْ أَفْصَحَ عَنْهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ نَفْسُهُ أَيْضًا فِيمَا بَعْدُ حَيْثُ قَالَ: إنَّ الثَّمَنَ مَشْرُوطٌ بِكَوْنِهِ مِمَّا يَجِبُ فِي الذِّمَّةِ فَيَخْتَصُّ بِذَلِكَ بِخِلَافِ الْأُجْرَةِ، وَلَا شَكَّ فِي عَدَمِ صَلَاحِيَّةِ الْأَعْيَانِ الَّتِي لَيْسَتْ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ؛ لَأَنْ تَكُونَ ثَمَنًا بِهَذَا الْمَعْنَى، وَلَا فِي عَدَمِ بُطْلَانِ أَنْ تَكُونَ الْمُقَايَضَةُ بَيْعًا بِلَا ثَمَنٍ بِهَذَا الْمَعْنَى، أَلَا يُرَى أَنَّ الشَّارِحَ الْمَذْكُورَ نَفْسَهُ قَالَ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الْبُيُوعِ: وَأَنْوَاعُ الْبَيْعِ أَرْبَعَةٌ: بَيْعُ السِّلْعَةِ بِمِثْلِهَا وَيُسَمَّى مُقَايَضَةً، وَبَيْعُهَا بِالدَّيْنِ أَعْنِي الثَّمَنَ، وَبَيْعُ الثَّمَنِ بِالثَّمَنِ كَبَيْعِ النَّقْدَيْنِ وَيُسَمَّى الصَّرْفَ، وَبَيْعُ الدَّيْنِ بِالْعَيْنِ، وَيُسَمَّى سَلَمًا انْتَهَى.

حَيْثُ جَعَلَ الدَّيْنَ مُقَابِلًا لِلْعَيْنِ، وَفَسَّرَ الدَّيْنَ بِالثَّمَنِ، وَجَعَلَ أَحَدَ أَنْوَاعِ الْبَيْعِ وَهُوَ الْمُسَمَّى بِالْمُقَايَضَةِ مَا لَا ثَمَنَ فِيهِ أَصْلًا. نَعَمْ لِلثَّمَنِ مَعْنًى آخَرُ وَهُوَ مَا يَكُونُ عِوَضًا عَنْ الْمَبِيعِ، نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْمُغْرِبِ وَغَيْرِهِ، وَذَلِكَ الْمَعْنَى يَعُمُّ الدَّيْنَ، وَالْعَيْنَ، وَهُوَ الَّذِي لَا يَتَحَقَّقُ الْبَيْعُ بِدُونِهِ، وَيَبْطُلُ كَوْنُ الْمُقَايَضَةِ بَيْعًا بِلَا ثَمَنٍ بِذَلِكَ الْمَعْنَى، وَلَكِنَّهُ لَيْسَ بِمُرَادِ الْمُصَنِّفِ بِالثَّمَنِ فِي قَوْلِهِ وَمَا لَا يَصْلُحُ ثَمَنًا يَصْلُحُ أُجْرَةً أَيْضًا كَالْأَعْيَانِ، فَلَا يُرَدُّ النَّظَرُ الْمَزْبُورُ عَلَيْهِ جِدًّا. وَأَمَّا الْجَوَابُ فَلِأَنَّهُ مِنْ ضِيقِ الْعَطَنِ إذْ فِيهِ اعْتِرَافٌ بِبُطْلَانِ الْمِثَالِ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ وَحَاشَا لَهُ. ثُمَّ أَقُولُ: بَقِيَ هَاهُنَا شَيْءٌ، وَهُوَ أَنَّ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ لَا شَكَّ أَنَّ مُرَادَ الْمُصَنِّفِ بِالثَّمَنِ فِي قَوْلِهِ وَمَا لَا يَصْلُحُ ثَمَنًا يَصْلُحُ أُجْرَةً أَيْضًا هُوَ مَا يَجِبُ فِي الذِّمَّةِ، وَأَنَّ تَمْثِيلَهُ مَا لَا يَصْلُحُ ثَمَنًا بِقَوْلِهِ كَالْأَعْيَانِ صَحِيحٌ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى الْمُرَادِ،

<<  <  ج: ص:  >  >>