بَابُ مَا يَجُوزُ لِلْمُكَاتَبِ أَنْ يَفْعَلَهُ
قَالَ (وَيَجُوزُ لِلْمُكَاتَبِ الْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ وَالسَّفَرُ) لِأَنَّ مُوجَبَ الْكِتَابَةِ أَنْ يَصِيرَ حُرًّا يَدًا، وَذَلِكَ بِمَالِكِيَّةِ التَّصَرُّفِ مُسْتَبِدًّا بِهِ تَصَرُّفًا يُوَصِّلُهُ إلَى مَقْصُودِهِ وَهُوَ نَيْلُ الْحُرِّيَّةِ بِأَدَاءِ الْبَدَلِ، وَالْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ، وَكَذَا السَّفَرُ لِأَنَّ التِّجَارَةَ رُبَّمَا لَا تَتَّفِقُ فِي الْحَضَرِ فَتَحْتَاجُ إلَى الْمُسَافَرَةِ، وَيَمْلِكُ الْبَيْعَ بِالْمُحَابَاةِ لِأَنَّهُ مِنْ صَنِيعِ التُّجَّارِ، فَإِنَّ التَّاجِرَ
الْمِقْدَارُ كَافٍ فِي إلْحَاقِهَا بِالنِّكَاحِ، وَجُعِلَ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ بِخِلَافِ الْبَيْعِ لِأَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى الْمُمَاكَسَةِ لِزِيَادَةِ الِاسْتِظْهَارِ، وَلَيْسَ هَذَا بِتَامٍّ أَيْضًا لِأَنَّ مُجَرَّدَ مُشَابَهَةِ شَيْءٍ لِشَيْءٍ فِي وَجْهٍ لَا يُنَافِي مُشَابَهَتَهُ لِغَيْرِهِ فِي ذَلِكَ الْوَجْهِ أَوْ فِي وَجْهٍ آخَرَ، فَمُشَابَهَةُ عَقْدِ الْكِتَابَةِ لِلنِّكَاحِ فِيمَا ذُكِرَ لَا يُنَافِي مُشَابَهَتَهُ لِلْبَيْعِ أَيْضًا.
فَلَوْ لَمْ يَذْكُرْ قَوْلَهُ بِخِلَافِ الْبَيْعِ لِأَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى الْمُمَاكَسَةِ لَمَا ظَهَرَ اخْتِصَاصُ هَاتِيكَ الْمُشَابَهَةِ بِالنِّكَاحِ حَتَّى يَثْبُتَ عَدَمُ صِحَّةِ قِيَاسِ الشَّافِعِيِّ عَقْدَ الْكِتَابَةِ عَلَى الْبَيْعِ كَمَا هُوَ الْمَطْلُوبُ عَلَى مَا أَفْصَحَ عَنْهُ قَوْلُ الشَّارِحِ الْمَزْبُورِ. وَلَنَا أَنَّ هَذَا قِيَاسٌ فَاسِدٌ، لِأَنَّ قِيَاسَ الْكِتَابَةِ عَلَى الْبَيْعِ إمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ حَيْثُ الِابْتِدَاءُ أَوْ مِنْ حَيْثُ الِانْتِهَاءُ إلَخْ، فَكَانَ قَوْلُهُ بِخِلَافِ الْبَيْعِ عُمْدَةً فِي إثْبَاتِ الْمَطْلُوبِ وَلَمْ يَكُنْ لِزِيَادَةِ الِاسْتِظْهَارِ فَقَطْ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ.
(بَابُ مَا يَجُوزُ لِلْمُكَاتَبِ أَنْ يَفْعَلَهُ)
الظَّاهِرُ أَنَّ اكْتِفَاءَ الْمُصَنِّفِ فِي عِنْوَانِ هَذَا الْبَابِ بِمَا يَجُوزُ لِلْمُكَاتَبِ أَنْ يَفْعَلَهُ لِكَوْنِهِ الْعُمْدَةَ الْمَقْصُودَ بِالذَّاتِ، وَإِلَّا فَقَدْ ذُكِرَ فِي هَذَا الْبَابِ كَثِيرٌ مِمَّا لَا يَجُوزُ لِلْمُكَاتَبِ أَنْ يَفْعَلَهُ كَمَا تَرَى.
ثُمَّ إنَّ صَاحِبَ الْعِنَايَةِ قَالَ: لَمَّا ذَكَرَ أَحْكَامَ الْكِتَابَةِ الصَّحِيحَةِ وَالْفَاسِدَةِ شَرَعَ فِي بَيَانِ مَا يَجُوزُ لِلْمُكَاتَبِ أَنْ يَفْعَلَهُ وَمَا لَا يَجُوزُ لَهُ، فَإِنَّ جَوَازَ التَّصَرُّفِ يُبْتَنَى عَلَى الْعَقْدِ الصَّحِيحِ اهـ. وَاقْتَفَى أَثَرَهُ الشَّارِحُ الْعَيْنِيُّ. أَقُولُ: لَا يَذْهَبُ عَلَى مَنْ لَهُ أَدْنَى مُسْكَةٍ سَمَاجَةُ التَّعْلِيلِ بِقَوْلِهِمَا فَإِنَّ جَوَازَ التَّصَرُّفِ يُبْتَنَى عَلَى الْعَقْدِ الصَّحِيحِ، فَإِنَّ هَذَا التَّعْلِيلَ لَا يَقْتَضِي تَأْخِيرَ هَذَا الْبَابِ عَنْ أَحْكَامِ الْكِتَابَةِ الْفَاسِدَةِ، بَلْ يَقْتَضِي تَقْدِيمَهُ عَلَيْهَا فَلَا يَتِمُّ التَّقْرِيبُ.
وَقَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ: لَمَّا ذَكَرَ أَحْكَامَ الْكِتَابَةِ الصَّحِيحَةِ وَالْفَاسِدَةِ شَرَعَ فِي بَيَانِ مَا يَجُوزُ لِلْمُكَاتَبِ أَنْ يَفْعَلَهُ وَأَنْ لَا يَفْعَلَهُ انْتَهَى.
أَقُولُ: هَذَا سَالِمٌ مِمَّا يُتَّجَهُ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الشَّارِحَانِ الْمَسْفُورَانِ، لَكِنْ فِيهِ أَيْضًا سَمَاجَةٌ لِأَنَّهُ جَعَلَ قَوْلَهُ وَأَنْ لَا يَفْعَلَهُ فِي حَيِّزِ يَجُوزُ وَعَطَفَهُ عَلَى أَنْ يَفْعَلَهُ فَصَارَ الْمَعْنَى شَرَعَ فِي بَيَانِ مَا يَجُوزُ أَنْ يَفْعَلَهُ الْمُكَاتَبُ وَمَا يَجُوزُ أَنْ لَا يَفْعَلَهُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الَّذِي ذُكِرَ فِي هَذَا الْبَابِ وَقَصَدَ بَيَانَهُ إنَّمَا هُوَ مَا يَجُوزُ أَنْ يَفْعَلَهُ الْمُكَاتَبُ وَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَفْعَلَهُ كَمَا يُفْصِحُ عَنْهُ قَوْلُهُ وَلَا يَتَزَوَّجُ وَلَا يَهَبُ وَلَا يَتَصَدَّقُ وَلَا يَتَكَفَّلُ وَلَا يُقْرِضُ لَا مُجَرَّدَ مَا يَجُوزُ أَنْ لَا يَفْعَلَهُ، فَإِنَّ جَوَازَ أَنْ لَا يَفْعَلَ شَيْئًا لَا يُنَافِي جَوَازَ أَنْ يَفْعَلَهُ أَيْضًا كَمَا فِي الْأَشْيَاءِ الْمُبَاحَةِ الَّتِي يَسْتَوِي فِيهَا جَانِبَا الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ، وَمَا نَحْنُ فِيهِ لَيْسَ كَذَلِكَ قَطْعًا (قَوْلُهُ وَيَجُوزُ لِلْمُكَاتَبِ الْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ وَالسَّفَرُ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: قَدْ تَقَدَّمَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِي كِتَابِ الْمُكَاتَبِ حَيْثُ قَالَ: وَإِذَا صَحَّتْ الْكِتَابَةُ خَرَجَ الْمُكَاتَبُ مِنْ يَدِ الْمَوْلَى وَلَمْ يَخْرُجْ مِنْ مِلْكِهِ، وَكَأَنَّهُ أَعَادَهَا تَمْهِيدًا لِقَوْلِهِ فَإِنْ شَرَطَ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَخْرُجَ مِنْ الْكُوفَةِ فَلَهُ أَنْ يَخْرُجَ اسْتِحْسَانًا فَإِنَّهُ لَمْ يُبَيِّنْ ذَلِكَ بِبَيَانِهِ ثَمَّةَ اهـ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute