للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

مِنْ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ فَسْخٌ حُكْمِيٌّ بِمَنْزِلَةِ الْعَزْلِ الْحُكْمِيِّ فِي الْوَكَالَةِ. قَالَ (وَإِذَا عَقَلَ عَنْهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَتَحَوَّلَ بِوَلَائِهِ إلَى غَيْرِهِ) لِأَنَّهُ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْغَيْرِ، وَلِأَنَّهُ قَضَى بِهِ الْقَاضِي، وَلِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ عِوَضٍ نَالَهُ كَالْعِوَضِ فِي الْهِبَةِ، وَكَذَا لَا يَتَحَوَّلُ وَلَدُهُ، وَكَذَا إذَا عَقَلَ عَنْ وَلَدِهِ لَمْ يَكُنْ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَتَحَوَّلَ لِأَنَّهُمْ فِي حَقِّ الْوَلَاءِ كَشَخْصٍ وَاحِدٍ.

قَالَ (وَلَيْسَ لِمَوْلَى الْعَتَاقَةِ أَنْ يُوَالِيَ أَحَدًا) لِأَنَّهُ لَازِمٌ، وَمَعَ بَقَائِهِ لَا يَظْهَرُ الْأَدْنَى.

عَلَى مَا مَرَّ فِي الْوَكَالَةِ، فَمَا مَعْنَى اشْتِرَاطِ تَوَقُّفِ الْفَسْخِ هَاهُنَا عَلَى حَضْرَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْأَعْلَى وَالْأَسْفَلِ. وَأُجِيبَ عَنْهُ بِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ سَبَبَ الِاشْتِرَاطِ هَاهُنَا هُوَ السَّبَبُ هُنَالِكَ وَهُوَ دَفْعُ الضَّرَرِ، فَإِنَّ الْعَقْدَ كَانَ بَيْنَهُمَا، وَفِي تَفَرُّدِ أَحَدِهِمَا إلْزَامُ الْفَسْخِ عَلَى الْآخَرِ بِدُونِ عِلْمِهِ، وَنَفْسُ إلْزَامِ أَحَدِهِمَا حُكْمَ الْفَسْخِ عَلَى الْآخَرِ بِدُونِ عِلْمِهِ ضَرَرٌ لَا مَحَالَةَ، لِأَنَّ فِيهِ جَعْلَ عَقْدِ الرَّجُلِ الْعَاقِلِ الْبَالِغِ كَلَا عَقْدٍ، وَفِيهِ إبْطَالُ فِعْلِهِ فَلَا يَجُوزُ بِدُونِ الْعِلْمِ، كَذَا فِي الشُّرُوحِ.

وَقَالَ فِي النِّهَايَةِ: وَهَذَا الْوَجْهُ هُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ فِي الْمَبْسُوطِ، وَقَصَرَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ ذِكْرَ الْجَوَابِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَكَأَنَّهُ اخْتَارَهُ أَيْضًا.

أَقُولُ: هَذَا الْوَجْهُ مَحَلُّ الْكَلَامِ، فَإِنَّ كَوْنَ نَفْسِ إلْزَامِ الْفَسْخِ عَلَى الْآخَرِ ضَرَرًا أَمْرٌ ظَاهِرٌ لِمَا ذُكِرَ مِنْ أَنَّ فِيهِ إبْطَالَ فِعْلِ الْعَاقِلِ الْبَالِغِ، وَأَمَّا مَدْخَلِيَّةُ عَدَمِ عِلْمِ الْآخَرِ بِذَلِكَ الْإِلْزَامِ فِي كَوْنِهِ ضَرَرًا فَغَيْرُ ظَاهِرٍ، إذْ عَلَى تَقْدِيرِ عِلْمِ الْآخَرِ بِهِ لَيْسَ لَهُ قُدْرَةٌ عَلَى دَفْعِ ذَلِكَ عَنْ نَفْسِهِ لِاسْتِقْلَالِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي فَسْخِ الْعَقْدِ عِنْدَ عِلْمِ الْآخِرِ بِلَا رَيْبٍ فَيَتَحَقَّقُ إبْطَالُ فِعْلِ الْآخَرِ فِي صُورَةِ الْعِلْمِ أَيْضًا بِالضَّرُورَةِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ عِلْمَ الْإِنْسَانِ بِالْأَمْرِ الَّذِي يَكْرَهُهُ وَلَا يَقْدِرُ عَلَى دَفْعِهِ لَا يُجْدِي شَيْئًا، فَإِذَنْ لَمْ يَظْهَرْ كَوْنُ سَبَبِ اشْتِرَاطِ تَوَقُّفِ الْفَسْخِ هَاهُنَا عَلَى حَضْرَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا دَفْعَ الضَّرَرِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُقَالَ: دَفْعُ الضَّرَرِ وَإِنْ لَمْ يَتَعَيَّنْ هَاهُنَا كَمَا تَعَيَّنَ فِي صُورَةِ الْعَزْلِ عَنْ الْوَكَالَةِ إلَّا أَنَّهُ مِمَّا يَحْتَمِلُ بِإِرْضَاءِ الْآخَرِ بِالْبِرِّ وَالْمُجَازَاةِ، لَكِنْ فِيهِ مَا فِيهِ فَتَأَمَّلْ.

وَثَانِيهِمَا: أَنَّ فَسْخَ أَحَدِهِمَا هَذَا الْعَقْدَ بِغَيْرِ مَحْضَرٍ مِنْ صَاحِبِهِ يَتَضَمَّنُ إضْرَارًا بِصَاحِبِهِ. أَمَّا إذَا كَانَ الْفَسْخُ مِنْ الْأَسْفَلِ فَلِأَنَّهُ رُبَّمَا يَمُوتُ الْأَسْفَلُ فَيَحْسِبُ الْأَعْلَى أَنَّ مَالَهُ صَارَ مِيرَاثًا لَهُ فَيَتَصَرَّفُ فِيهِ فَيَصِيرُ مَضْمُونًا عَلَيْهِ.

وَأَمَّا إذَا كَانَ الْفَسْخُ مِنْ الْأَعْلَى فَلِأَنَّ الْأَسْفَلَ رُبَّمَا يُعْتِقُ عَبِيدًا عَلَى حُسْبَانِ أَنَّ عَقْلَ عَبِيدِهِ عَلَى مَوْلَاهُ، وَلَوْ صَحَّ فَسْخُ الْأَعْلَى يَجِبُ الْعَقْلُ عَلَى الْأَسْفَلِ بِدُونِ عِلْمِهِ فَيَتَضَرَّرُ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ نَقْلًا عَنْ الذَّخِيرَةِ. أَقُولُ: هَذَا الْوَجْهُ فِي الْجَوَابِ هُوَ الصَّوَابُ، لِأَنَّ حَاصِلَهُ أَنَّ فِي الْفَسْخِ بِدُونِ عِلْمِ صَاحِبِهِ ضَرَرَ الِاغْتِرَارِ، وَفِي الْإِعْلَامِ دَفْعُ ذَلِكَ فَلَا بُدَّ مِنْهُ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذَا مَعْقُولُ الْمَعْنَى (قَوْلُهُ لِأَنَّهُ فَسْخٌ حُكْمِيٌّ بِمَنْزِلَةِ الْعَزْلِ الْحُكْمِيِّ فِي الْوَكَالَةِ) قِيلَ عَلَيْهِ لِمَاذَا يَجْعَلُ صِحَّةَ الْعَقْدِ مَعَ الثَّانِي مُوجِبَةَ بُطْلَانِ الْعَقْدِ الْأَوَّلِ؟ قُلْنَا: إنَّ الْوَلَاءَ كَالنَّسَبِ، وَالنَّسَبُ مَا دَامَ ثَابِتًا مِنْ إنْسَانٍ لَا يُتَصَوَّرُ ثُبُوتُهُ مِنْ غَيْرِهِ فَكَذَلِكَ الْوَلَاءُ، فَعَرَفْنَا أَنَّ مِنْ ضَرُورَةِ صِحَّةِ الْعَقْدِ مَعَ الثَّانِي بُطْلَانُ الْعَقْدِ الْأَوَّلِ، كَذَا فِي عَامَّةِ الشُّرُوحِ وَالْكَافِي، وَعَزَاهُ فِي النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ إلَى الْمَبْسُوطِ.

أَقُولُ: فِي الْجَوَابِ بَحْثٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ أَنَّ قَوْلَهُمْ وَالنَّسَبُ مَا دَامَ ثَابِتًا مِنْ إنْسَانٍ لَا يُتَصَوَّرُ ثُبُوتُهُ مِنْ غَيْرِهِ مَمْنُوعٍ، فَإِنَّهُ إذَا كَانَتْ الْأَمَةُ بَيْنَ شَرِيكَيْنِ فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ فَادَّعَيَاهُ ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُمَا عِنْدَنَا كَمَا مَرَّ فِي بَابِ الِاسْتِيلَادِ مِنْ كِتَابِ الْعَتَاقِ مُدَلَّلًا وَمَشْرُوحًا، وَالثَّانِي أَنَّ قِيَاسَ الْوَلَاءِ عَلَى النَّسَبِ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَصِحَّ عَقْدُ الْوَلَاءِ مَعَ الثَّانِي بَعْدَ أَنْ يَصِحَّ مَعَ الْأَوَّلِ إذْ النَّسَبُ لَا يُتَصَوَّرُ ثُبُوتُهُ مِنْ إنْسَانٍ بَعْدَ ثُبُوتِهِ مِنْ آخَرَ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْوَلَاءُ كَذَلِكَ عَلَى مُقْتَضَى الْقِيَاسِ، فَمِنْ أَيْنَ يُتَصَوَّرُ الِاسْتِدْلَال بِصِحَّةِ عَقْدِ الْوَلَاءِ مَعَ الثَّانِي عَلَى بُطْلَانِ عَقْدِهِ مَعَ الْأَوَّلِ

<<  <  ج: ص:  >  >>