لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ اسْمٌ لِفِعْلٍ يَفْعَلُهُ الْمَرْءُ بِغَيْرِهِ فَيَنْتَفِي بِهِ رِضَاهُ أَوْ يَفْسُدُ بِهِ اخْتِيَارُهُ مَعَ بَقَاءِ أَهْلِيَّتِهِ، وَهَذَا إنَّمَا يَتَحَقَّقُ إذَا خَافَ الْمُكْرَهُ تَحْقِيقَ مَا تَوَعَّدَ بِهِ، وَذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ مِنْ الْقَادِرِ وَالسُّلْطَانِ وَغَيْرِهِ سِيَّانِ عِنْدَ تَحَقُّقِ الْقُدْرَةِ، وَاَلَّذِي قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ إنَّ الْإِكْرَاهَ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا مِنْ السُّلْطَانِ لِمَا أَنَّ الْمَنَعَةَ لَهُ وَالْقُدْرَةُ لَا تَتَحَقَّقُ بِدُونِ الْمَنَعَةِ.
فَقَدْ قَالُوا هَذَا اخْتِلَافُ عَصْرٍ وَزَمَانٍ لَا اخْتِلَافُ حُجَّةٍ وَبُرْهَانٍ، وَلَمْ تَكُنْ الْقُدْرَةُ فِي زَمَنِهِ إلَّا لِلسُّلْطَانِ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ تَغَيَّرَ الزَّمَانُ وَأَهْلُهُ، ثُمَّ كَمَا تُشْتَرَطُ قُدْرَةُ الْمُكْرِهِ لِتَحَقُّقِ الْإِكْرَاهِ يُشْتَرَطُ خَوْفُ الْمُكْرَهِ وُقُوعَ مَا يُهَدَّدُ بِهِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَغْلِبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ يَفْعَلُهُ لِيَصِيرَ بِهِ مَحْمُولًا عَلَى مَا دُعِيَ إلَيْهِ مِنْ الْفِعْلِ.
قَالَ (وَإِذَا أُكْرِهَ الرَّجُلُ عَلَى بَيْعِ مَالِهِ أَوْ عَلَى شِرَاءِ سِلْعَةٍ أَوْ عَلَى أَنْ يُقِرَّ لِرَجُلٍ بِأَلْفٍ أَوْ يُؤَاجِرَ دَارِهِ فَأُكْرِهَ عَلَى ذَلِكَ بِالْقَتْلِ أَوْ بِالضَّرْبِ الشَّدِيدِ أَوْ بِالْحَبْسِ فَبَاعَ أَوْ اشْتَرَى فَهُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَمْضَى الْبَيْعَ وَإِنْ شَاءَ فَسَخَهُ وَرَجَعَ بِالْمَبِيعِ) لِأَنَّ مِنْ شَرْطِ صِحَّةِ هَذِهِ
وَذَكَرَ فِي الْإِيضَاحِ أَنَّ الْإِكْرَاهَ فِعْلٌ يُوجَدُ مِنْ الْمُكْرِهِ فَيُحْدِثُ فِي الْمَحَلِّ مَعْنًى فَيَصِيرُ بِهِ مَدْفُوعًا إلَى الْفِعْلِ الَّذِي طُلِبَ مِنْهُ.
وَذَكَرَ فِي الْوَافِي أَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ تَهْدِيدِ الْقَادِرِ غَيْرَهُ عَلَى مَا هَدَّدَهُ بِمَكْرُوهٍ عَلَى أَمْرٍ بِحَيْثُ يَنْتَفِي بِهِ الرِّضَا، كَذَا فِي النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ، وَقَالَ فِي النِّهَايَةِ: وَلَك أَنْ تَخْتَارَ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثِ أَيَّهَا شِئْت
قُلْت: وَقَدْ اخْتَارَ الْمُصَنِّفُ عِبَارَةَ الْمَبْسُوطِ كَمَا تَرَى، وَسَيَجِيءُ مَا يَتَعَلَّقُ بِتَفْسِيرِهَا. وَأَمَّا شَرْطُهُ وَحُكْمُهُ فَيَأْتِي فِي الْكِتَابِ أَثْنَاءَ الْمَسَائِلِ (قَوْلُهُ لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ اسْمٌ لِفِعْلٍ يَفْعَلُهُ الْمَرْءُ بِغَيْرِهِ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: وَتَفْسِيرُهُ أَنْ يَحْمِلَ الْمَرْءُ غَيْرَهُ عَلَى الْمُبَاشَرَةِ حَمْلًا يَنْتَفِي بِهِ رِضَاهُ وَهُوَ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَعَ فَسَادِ اخْتِيَارٍ أَوْ مَعَ عَدَمِهِ، وَهُوَ إشَارَةٌ إلَى نَوْعَيْ الْإِكْرَاهِ وَيَفْسُدُ بِهِ اخْتِيَارُهُ، وَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ عَدَمِ الرِّضَا وَهُوَ إشَارَةٌ إلَى الْقِسْمِ الْآخَرِ، لَكِنْ لَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيرِ " لَا " فِي أَوْ يَفْسُدُ بِهِ اخْتِيَارُهُ، فَذَلِكَ أَنْوَاعُ الْإِكْرَاهِ الثَّلَاثَةُ وَمَوْضِعُهُ أُصُولُ الْفِقْهِ اهـ كَلَامُهُ.
أَقُولُ: قَدْ خَرَجَ الشَّارِحُ الْمَذْكُورُ فِي تَفْسِيرِ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ هَذَا عَنْ سَنَنِ الصَّوَابِ، وَسَلَكَ مَسْلَكًا لَا يَرْتَضِيهِ أَحَدٌ مِنْ ذَوِي الْأَلْبَابِ، وَإِنْ شِئْت مَا هُوَ التَّحْقِيقُ فِي هَذَا الْمَقَامِ فَاسْتَمِعْ لِمَا نَتْلُو عَلَيْك مِنْ الْكَلَامِ: فَاعْلَمْ أَنَّ الشَّائِعَ الْمَذْكُورَ فِي عَامَّةِ الْكُتُبِ مِنْ الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ هُوَ أَنَّ الْإِكْرَاهَ نَوْعَانِ: نَوْعٌ يُعْدِمُ الرِّضَا وَيُفْسِدُ الِاخْتِيَارَ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ بِقَتْلٍ أَوْ بِقَطْعِ عُضْوٍ وَهُوَ الْإِكْرَاهُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute