الْعُقُودِ التَّرَاضِي، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ﴿إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ﴾
الْمُلْجِئُ، وَنَوْعٌ يُعْدِمُ الرِّضَا وَلَا يُفْسِدُ الِاخْتِيَارَ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ بِضَرْبٍ أَوْ بِقَيْدٍ أَوْ بِحَبْسٍ وَهُوَ الْإِكْرَاهُ الْغَيْرُ الْمُلْجِئِ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا لَا يُنَافِي الْأَهْلِيَّةَ وَلَا الْخِطَابَ.
وَأَمَّا فَخْرُ الْإِسْلَامِ الْبَزْدَوِيُّ فَقَالَ فِي أُصُولِهِ: الْإِكْرَاهُ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ: نَوْعٌ يُعْدِمُ الرِّضَا وَيُفْسِدُ الِاخْتِيَارَ وَهُوَ الْمُلْجِئُ. وَنَوْعٌ يُعْدِمُ الرِّضَا وَلَا يُفْسِدُ الِاخْتِيَارَ وَهُوَ الَّذِي لَا يُلْجِئُ، وَنَوْعٌ آخَرُ لَا يُعْدِمُ الرِّضَا وَهُوَ أَنْ يَهُمَّ بِحَبْسِ أَبِيهِ أَوْ وَلَدِهِ أَوْ مَا يَجْرِي مُجْرَاهُ. وَالْإِكْرَاهُ بِجُمْلَتِهِ لَا يُنَافِي أَهْلِيَّتَهُ وَلَا يُوجِبُ وَضْعَ الْخِطَابِ اهـ. وَقَالَ صَاحِبُ الْكَشْفِ فِي شَرْحِ هَذَا الْمَقَامِ مِنْ أُصُولِ فَخْرِ الْإِسْلَامِ:
الْإِكْرَاهُ حَمْلُ الْغَيْرِ عَلَى أَمْرٍ يَكْرَهُهُ وَلَا يُرِيدُ مُبَاشَرَتَهُ لَوْلَا الْحَمْلُ عَلَيْهِ.
وَيَدْخُلُ فِي هَذَا التَّعْرِيفِ الْأَقْسَامُ الثَّلَاثَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي الْكِتَابِ. قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ: هُوَ اسْمٌ لِفِعْلٍ يَفْعَلُهُ الْإِنْسَانُ بِغَيْرِهِ فَيَنْتَفِي بِهِ رِضَاهُ أَوْ يَفْسُدُ بِهِ اخْتِيَارُهُ، وَلَمْ يَدْخُلْ فِيهِ الْقِسْمُ الثَّالِثُ الَّذِي ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ، وَكَأَنَّهُ لَمْ يَجْعَلْهُ مِنْ أَقْسَامِ الْإِكْرَاهِ لِعَدَمِ تَرَتُّبِ أَحْكَامِهِ عَلَيْهِ، إلَى هُنَا كَلَامُ صَاحِبِ الْكَشْفِ، إذَا عَرَفْت هَذَا فَقَدْ ظَهَرَ لَك أَنَّ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ هَاهُنَا مِنْ مَعْنَى الْإِكْرَاهِ.
وَمَا ذَكَرَهُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ فِي الْمَبْسُوطِ بِعَيْنِهِ، وَأَنَّ الْقِسْمَ الثَّالِثَ مِنْ الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي أُصُولِ فَخْرِ الْإِسْلَامِ غَيْرُ دَاخِلٍ فِي هَذَا الْمَعْنَى كَمَا تَوَهَّمَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ، وَإِنَّمَا هُوَ دَاخِلٌ فِي مَعْنَى الْإِكْرَاهِ لُغَةً كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ صَاحِبُ الْكَشْفِ، وَهُوَ أَنَّ وَجْهَ عَدَمِ إدْخَالِ ذَلِكَ الْقِسْمِ فِي مَعْنَى الْإِكْرَاهِ شَرْعًا عَدَمُ تَرَتُّبِ أَحْكَامِ الْإِكْرَاهِ عَلَيْهِ، فَإِنَّ الْإِكْرَاهَ فِي عُرْفِ الشَّرْعِ مَا تَرَتَّبَ عَلَيْهِ أَحْكَامُهُ، وَانْكَشَفَ عِنْدَك أَيْضًا سِتْرُ مَا وَقَعَ فِي عَامَّةِ الْكُتُبِ مِنْ تَنْوِيعِ الْإِكْرَاهِ إلَى نَوْعَيْنِ فَقَطْ، فَإِنَّ الْمَقْصُودَ بِالْبَيَانِ فِي الْكُتُبِ الشَّرْعِيَّةِ أَحْوَالُ مَا هُوَ الْوَاقِعُ كَمَا عَرَفْت غَيْرُ صَحِيحٍ فِي نَفْسِهِ.
أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّهُ جَعَلَ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ فَيَنْتَفِي بِهِ رِضَاهُ أَعَمَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَعَ فَسَادِ اخْتِيَارٍ أَوْ مَعَ عَدَمِهِ مَعَ أَنَّ مُقَابَلَةَ قَوْلِهِ أَوْ يَفْسُدُ بِهِ رِضَاهُ تَمْنَعُهُ قَطْعًا، وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّهُ قَالَ: إنَّ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ أَوْ يَفْسُدُ بِهِ اخْتِيَارٌ يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ عَدَمِ الرِّضَا، وَلَا مَعْنَى لَهُ لِأَنَّهُ إنْ أَرَادَ أَنَّهُ بِحَسَبِ ظَاهِرِهِ: أَيْ بِدُونِ تَقْدِيرِ شَيْءٍ آخَرَ يَسْتَلْزِمُ ذَلِكَ فَلَيْسَ كَذَلِكَ قَطْعًا، لِأَنَّ فَسَادَ الِاخْتِيَارِ إنَّمَا يَسْتَلْزِمُ عَدَمَ الرِّضَا لَا نَفْيَ عَدَمِهِ وَهُوَ ثُبُوتُ الرِّضَا، وَإِنْ أَرَادَ أَنَّهُ إذَا أُخْرِجَ عَنْ ظَاهِرِهِ بِتَقْدِيرِ " لَا " كَمَا ذَكَرَهُ فِيمَا بَعْدُ يَسْتَلْزِمُ ذَلِكَ فَلَيْسَ كَذَلِكَ أَيْضًا، إذْ بِتَقْدِيرِ لَا يَصِيرُ الْمَعْنَى أَوْ لَا يَفْسُدُ بِهِ اخْتِيَارُهُ وَذَلِكَ بِأَنْ يَصِحَّ اخْتِيَارُهُ مَعَهُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ صِحَّةَ الِاخْتِيَارِ لَا تَسْتَلْزِمُ نَفْيَ عَدَمِ الرِّضَا وَهُوَ ثُبُوتُ الرِّضَا لِجَوَازِ أَنْ يَصِحَّ الِاخْتِيَارُ وَانْعِدَامُ الرِّضَا كَمَا فِي النَّوْعِ الْغَيْرِ الْمُلْجِئِ مِنْ نَوْعَيْ الْإِكْرَاهِ عَلَى مَا مَرَّ.
وَأَمَّا ثَالِثًا فَلِأَنَّهُ قَالَ وَهُوَ إشَارَةٌ إلَى الْقِسْمِ الْآخَرِ، لَكِنْ لَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيرِ لَا فِي أَوْ يَفْسُدُ بِهِ اخْتِيَارُهُ، وَهُوَ أَيْضًا مُخْتَلٌّ لِأَنَّ هَذَا التَّقْدِيرَ مَعَ كَوْنِهِ خِلَافَ الظَّاهِرِ جِدًّا سِيَّمَا فِي مَقَامِ التَّعْرِيفِ لَا يُجْدِي مَا ذَكَرَهُ مِنْ كَوْنِ مَقْصُودِ الْمُصَنِّفِ الْإِشَارَةَ إلَى الْأَنْوَاعِ الثَّلَاثَةِ لِلْإِكْرَاهِ، لِأَنَّ نَفْيَ فَسَادِ الِاخْتِيَارِ إنَّمَا يُفِيدُ صِحَّةَ الِاخْتِيَارِ وَهِيَ لَا تَقْتَضِي الرِّضَا بَلْ تُحَقِّقُ عَدَمَ الرِّضَا أَيْضًا كَمَا عَرَفْت آنِفًا فَلَا تَحْصُلُ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ أَوْ يَفْسُدُ بِهِ الِاخْتِيَارُ عَلَى تَقْدِيرِ كَلِمَةِ " لَا " فِيهِ إلَى الْقِسْمِ الثَّالِثِ مِنْ الْإِكْرَاهِ لِصِدْقِهِ عَلَى الْقِسْمِ الثَّانِي مِنْ النَّوْعَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ كَمَا تَرَى، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُقَالَ: نَفْيُ فَسَادِ الِاخْتِيَارِ فِي مُقَابَلَةِ انْتِفَاءِ الرِّضَا يَدُلُّ عَلَى بَقَاءِ الرِّضَا فِي الْمُقَابِلِ فَيَخْرُجُ الْقِسْمُ الثَّانِي مِنْ النَّوْعَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ، لَكِنْ لَا يَخْفَى عَلَى ذِي مُسْكَةٍ أَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي نَسَبَهُ الشَّارِحُ الْمَزْبُورُ هَاهُنَا إلَى الْمُصَنِّفِ كَانَ يَحْصُلُ بِأَنْ يَقُولَ بَدَلَ قَوْلِهِ أَوْ يَفْسُدُ بِهِ اخْتِيَارُهُ أَوْ لَا بِمَعْنَى أَوْ لَا يَنْتَفِي بِهِ رِضَاهُ، فَهَلْ يُجَوِّزُ الْعَاقِلُ بِمِثْلِ الْمُصَنِّفِ أَنْ يَتْرُكَ ذَاكَ اللَّفْظَ الْأَقْصَرَ الْخَالِي عَنْ التَّمَحُّلَاتِ بِأَسْرِهَا لَوْ أَرَادَ إفَادَةَ ذَلِكَ الْمَعْنَى الَّذِي نَسَبَهُ الشَّارِحُ الْمَزْبُورُ إلَيْهِ وَيَخْتَارَ هَذَا اللَّفْظَ الْأَطْوَلَ الْمُشْتَمِلَ عَلَى تَمَحُّلَاتٍ كَثِيرَةٍ فِي إفَادَةِ ذَلِكَ الْمَعْنَى، وَلَعَمْرِي إنَّ رُتْبَةَ الْمُصَنِّفِ بِمَعْزِلٍ عَنْ مِثْلِ ذَلِكَ.
فَالْحَقُّ أَنَّ مُرَادَهُ بِقَوْلِهِ فَيَنْتَفِي بِهِ رِضَاهُ أَنْ يَنْتَفِيَ بِهِ رِضَاهُ بِدُونِ فَسَادِ اخْتِيَارِهِ بِقَرِينَةِ مُقَابَلَةِ قَوْلِهِ أَوْ يَفْسُدُ بِهِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute