وَالْإِكْرَاهُ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ يُعْدِمُ الرِّضَا فَيَفْسُدُ، بِخِلَافِ مَا إذَا أُكْرِهَ بِضَرْبِ سَوْطٍ أَوْ حَبْسِ يَوْمٍ أَوْ قَيْدِ يَوْمٍ لِأَنَّهُ لَا يُبَالِي بِهِ بِالنَّظَرِ إلَى الْعَادَةِ فَلَا يَتَحَقَّقُ بِهِ الْإِكْرَاهُ إلَّا إذَا كَانَ الرَّجُلُ صَاحِبَ مَنْصِبٍ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَسْتَضِرُّ بِهِ لِفَوَاتِ الرِّضَا، وَكَذَا الْإِقْرَارُ حُجَّةٌ لِتَرَجُّحِ جَنَبَةِ الصِّدْقِ فِيهِ عَلَى جَنَبَةِ الْكَذِبِ، وَعِنْدَ الْإِكْرَاهِ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ يَكْذِبُ لِدَفْعِ الْمَضَرَّةِ، ثُمَّ إذَا بَاعَ مُكْرَهًا وَسَلَّمَ مُكْرَهًا يَثْبُتُ بِهِ الْمِلْكُ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ زُفَرَ لَا يَثْبُتُ لِأَنَّهُ بَيْعٌ مَوْقُوفٌ عَلَى الْإِجَازَةِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَجَازَ جَازَ وَالْمَوْقُوفُ قَبْلَ الْإِجَازَةِ لَا يُفِيدُ الْمِلْكَ، وَلَنَا أَنَّ رُكْنَ الْبَيْعِ صَدَرَ مِنْ أَهْلِهِ مُضَافًا إلَى مَحَلِّهِ
اخْتِيَارُهُ فَإِنَّ الْعَامَّ إذَا قُوبِلَ بِالْخَاصِّ يُرَادُ بِهِ مَا عَدَا ذَلِكَ الْخَاصَّ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى ﴿حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى﴾ فَكَانَ قَوْلُهُ فَيَنْتَفِي بِهِ رِضَاهُ إشَارَةً إلَى أَحَدِ نَوْعَيْ الْإِكْرَاهِ وَهُوَ غَيْرُ الْمُلْجِئِ، وَقَوْلُهُ أَوْ يَفْسُدُ بِهِ اخْتِيَارُهُ إشَارَةٌ إلَى النَّوْعِ الْآخَر مِنْهُمَا وَهُوَ الْمُلْجِئُ فَانْتَظَمَ كَلَامُهُ مِنْ غَيْرِ كُلْفَةٍ أَصْلًا وَانْطَبَقَ لِمَا فِي عَامَّةِ الْكُتُبِ
(قَوْلُهُ وَالْإِكْرَاهُ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ يُعْدِمُ الرِّضَا) أَرَادَ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ الْقَتْلَ وَالضَّرْبَ الشَّدِيدَ وَالْحَبْسَ الْمَدِيدَ، وَهَذَا مَعَ كَوْنِهِ أَظْهَرَ مِنْ أَنْ يَخْفَى قَدْ خَفِيَ عَلَى الشَّارِحِ الْعَيْنِيِّ فَقَالَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ: يَعْنِي بِالْبَيْعِ وَأَخَوَاتِهِ، وَلَمْ يَدْرِ أَنَّ الْبَيْعَ وَأَخَوَاتِهِ مِنْ الْمُكْرَهِ عَلَيْهِ لَا مِنْ الْمُكْرَهِ بِهِ، وَهَذَا نَظِيرُ سَائِرِ سَقَطَاتِهِ فِي كِتَابِهِ هَذَا (قَوْلُهُ بِخِلَافِ مَا إذَا أُكْرِهَ بِضَرْبِ سَوْطٍ أَوْ حَبْسِ يَوْمٍ أَوْ قَيْدِ يَوْمٍ لِأَنَّهُ لَا يُبَالِي بِهِ بِالنَّظَرِ إلَى الْعَادَةِ فَلَا يَتَحَقَّقُ بِهِ الْإِكْرَاهُ) أَقُولُ: يَرِدُ عَلَى ظَاهِرِ هَذَا التَّحْرِيرِ أَنَّ آخِرَ الْكَلَامِ يُنَاقِضُ أَوَّلَهُ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي أَوَّلِهِ بِخِلَافِ مَا إذَا أُكْرِهَ بِضَرْبِ سَوْطٍ أَوْ حَبْسِ يَوْمٍ أَوْ قَيْدِ يَوْمٍ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى تَحَقُّقِ الْإِكْرَاهِ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ أَيْضًا وَإِلَّا لَمَا قَالَ بِخِلَافِ مَا إذَا أُكْرِهَ بَلْ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ بِخِلَافِ مَا إذَا ضُرِبَ بِسَوْطٍ أَوْ حُبِسَ يَوْمًا أَوْ قُيِّدَ يَوْمًا، وَقَالَ فِي آخِرِهِ فَلَا يَتَحَقَّقُ بِهِ الْإِكْرَاهُ، وَهَذَا صَرِيحٌ فِي عَدَمِ تَحَقُّقِ الْإِكْرَاهِ فِي هَاتِيك الصُّوَرِ فَتَنَاقَضَا.
وَالْجَوَابُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْإِكْرَاهِ فِي قَوْلِهِ بِخِلَافِ مَا إذَا أُكْرِهَ مَعْنَاهُ اللُّغَوِيُّ وَهُوَ حَمْلُ الْإِنْسَانِ عَلَى أَمْرٍ يَكْرَهُهُ كَمَا مَرَّ، وَلَا شَكَّ فِي تَحَقُّقِ هَذَا الْمَعْنَى فِي هَاتِيك الصُّوَرِ، وَاَلَّذِي نَفَاهُ فِي آخِرِ الْكَلَامِ إنَّمَا هُوَ تَحَقُّقُ الْإِكْرَاهِ عَلَى مَعْنَاهُ الشَّرْعِيِّ الَّذِي تَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ أَحْكَامُهُ فَلَا تَنَاقُضَ.
وَلَك أَنْ تَقُولَ: التَّعْبِيرُ بِالْإِكْرَاهِ فِي قَوْلِهِ بِخِلَافِ مَا إذَا أُكْرِهَ لِلْمُشَاكَلَةِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى ﴿تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ﴾ فَحِينَئِذٍ لَا يَكُونُ لَفْظُ الْإِكْرَاهِ هُنَالِكَ حَقِيقَةً لَا لُغَوِيَّةً وَلَا شَرْعِيَّةً، بَلْ يَصِيرُ مَجَازًا فَلَا تَنَاقُضَ أَصْلًا (قَوْلُهُ وَكَذَا الْإِقْرَارُ حُجَّةٌ إلَخْ) قَالَ فِي النِّهَايَةِ وَالْعِنَايَةِ: قَوْلُهُ وَكَذَا الْإِقْرَارُ حُجَّةٌ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ وَالْإِكْرَاهُ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ يُعْدِمُ الرِّضَا فَيَفْسُدُ: أَيْ وَالْإِقْرَارُ أَيْضًا يَفْسُدُ بِالْإِكْرَاهِ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ إنَّمَا صَارَ حُجَّةً فِي غَيْرِ الْإِكْرَاهِ لِتَرَجُّحِ جَنَبَةِ الصِّدْقِ، وَعِنْدَ الْإِكْرَاهِ يَحْتَمِلُ الْكَذِبَ لِدَفْعِ الْمَضَرَّةِ فَلَا يَكُونُ حُجَّةً اهـ.
أَقُولُ: الظَّاهِرُ عِنْدِي أَنَّ قَوْلَهُ وَكَذَا الْإِقْرَارُ حُجَّةٌ إلَخْ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ لِأَنَّ مِنْ شَرْطِ صِحَّةِ هَذِهِ الْعُقُودِ التَّرَاضِي إلَى قَوْلِهِ فَيَفْسُدُ لَا عَلَى قَوْلِهِ وَالْإِكْرَاهُ بِهَذَا الْأَشْيَاءِ يُعْدِمُ الرِّضَا فَيَفْسُدُ، لِأَنَّ قَوْلَهُ وَالْإِكْرَاهُ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute