قَالَ (وَإِذَا أَكْرَهَهُ عَلَى الرِّدَّةِ لَمْ تَبِنْ امْرَأَتُهُ مِنْهُ) لِأَنَّ الرِّدَّةَ تَتَعَلَّقُ بِالِاعْتِقَادِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنًّا بِالْإِيمَانِ لَا يَكْفُرُ وَفِي اعْتِقَادِهِ الْكُفْرَ شَكٌّ فَلَا تَثْبُتُ الْبَيْنُونَةُ بِالشَّكِّ، فَإِنْ قَالَتْ الْمَرْأَةُ قَدْ بِنْتُ مِنْك وَقَالَ هُوَ قَدْ أَظْهَرْتُ ذَلِكَ وَقَلْبِي مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ
- ﵀ أَنْ يُقَالَ: نُدْرَةُ ذَلِكَ مَمْنُوعٌ، كَيْفَ وَوُقُوعُ ظَفَرِ اللُّصُوصِ وَقُطَّاعِ الطَّرِيقِ بِالنَّاسِ وَعَجْزُهُمْ عَنْ دَفْعِ شَرِّ هَؤُلَاءِ الْمُتَغَلِّبَةِ سِيَّمَا فِي الْمَوَاضِعِ النَّائِيَةِ عَنْ الْعُمْرَانِ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَى، وَلَئِنْ سَلَّمَ النُّدْرَةَ فَأَنْ لَا يَكُونَ لِلنَّادِرِ حُكْمٌ فِيمَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ مِنْ الْحُدُودِ سِيَّمَا فِي حَدِّ الزِّنَا كَمَا نَحْنُ فِيهِ مَمْنُوعٌ، إذْ لَا شَكَّ أَنَّ بِمُجَرَّدِ الِاحْتِمَالِ تَثْبُتُ الشُّبْهَةُ فَضْلًا عَنْ الْوُقُوعِ بِطَرِيقِ النُّدْرَةِ.
قَالَ فِي غَايَةِ الْبَيَانِ فِي هَذَا الْمَقَامِ: وَدَلِيلُهُمَا ظَاهِرٌ، لِأَنَّ الْكَلَامَ فِيمَا إذَا جَاءَ مِنْ غَيْرِ السُّلْطَانِ مَا يَأْتِي مِنْ السُّلْطَانِ فِي مَوْضِعٍ لَا مَدْفَعَ لَهُ عَادَةً، وَفِي مِثْلِ هَذَا السُّلْطَانُ وَغَيْرُهُ سَوَاءٌ، أَلَا يُرَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ فِي غَيْرِ الْمِصْرِ اُعْتُبِرَ بِالْإِجْمَاعِ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ هَذَا مِمَّا لَا يَغْلِبُ عَلَيْهِ عَادَةً إذَا كَانَ فِي الْمِصْرِ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ يَلْحَقُهُ الْغَوْثُ مِنْ النَّاسِ أَوْ مِنْ السُّلْطَانِ فَيَنْدَفِعُ، وَالْحُكْمُ لَا يَنْبَنِي عَلَى النَّادِرِ، حَتَّى لَوْ كَانَ فِي مَوْضِعٍ يَغْلِبُ كَمَا فِي غَيْرِ الْمِصْرِ نَعْتَبِرُهُ كَذَا قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ عَلَاءُ الدِّينِ فِي شَرْحِ الْكَافِي انْتَهَى.
أَقُولُ: عَلَى هَذَا التَّقْرِيرِ يُمْكِنُ أَنْ يَنْدَفِعَ مَنْعُ النُّدْرَةِ، وَلَكِنْ يَبْقَى مَنْعُ أَنْ لَا يَكُونَ لِلنَّادِرِ حُكْمٌ فِيمَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ كَمَا نَحْنُ فِيهِ عَلَى حَالِهِ. ثُمَّ أَقُولُ: إطْلَاقُ مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ وَإِطْلَاقَاتِ عَامَّةِ الْمُعْتَبَرَاتِ فِي أَنَّ حُكْمَ الْإِكْرَاهِ مَخْصُوصٌ بِالسُّلْطَانِ عِنْدَهُ وَعَامٌّ لِكُلِّ مُتَغَلِّبٍ يَقْدِرُ عَلَى تَحْقِيقِ مَا هَدَّدَهُ بِهِ عِنْدَهُمَا مِمَّا لَا يُسَاعِدُ الْقَوْلَ بِأَنَّ الْإِكْرَاهَ مِنْ غَيْرِ السُّلْطَانِ فِي غَيْرِ الْمِصْرِ مُعْتَبَرٌ بِالْإِجْمَاعِ، يَظْهَرُ ذَلِكَ بِالتَّأَمُّلِ فِي عِبَارَةِ الْكِتَابِ وَتَتَبُّعِ سَائِرِ الْمُعْتَبَرَاتِ. قَالَ الْإِمَامُ قَاضِي خَانْ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الْإِكْرَاهِ مِنْ فَتَاوَاهُ: الْإِكْرَاهُ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا مِنْ السُّلْطَانِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ﵀، وَفِي قَوْلِ صَاحِبَيْهِ يَتَحَقَّقُ مِنْ كُلِّ مُتَغَلِّبٍ يَقْدِرُ عَلَى تَحْقِيقِ مَا هَدَّدَهُ بِهِ، وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى انْتَهَى. وَقَالَ فِي الذَّخِيرَةِ وَالْمُحِيطِ الْبُرْهَانِيِّ: وَمِنْ شَرْطِ صِحَّتِهِ أَنْ يَكُونَ الْإِكْرَاهُ مِنْ السُّلْطَانِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ﵀، وَعِنْدَهُمَا إذَا جَاءَ مِنْ غَيْرِ السُّلْطَانِ مَا يَجِيءُ مِنْ السُّلْطَانِ فَهُوَ إكْرَاهٌ صَحِيحٌ شَرْعًا. وَالِاخْتِلَافُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مَذْكُورٌ فِي مَسْأَلَةِ الزِّنَا، وَصُورَتُهَا: غَيْرُ السُّلْطَانِ إذَا أَكْرَهَ رَجُلًا عَلَى الزِّنَا فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ﵀ يَجِبُ الْحَدُّ عَلَى الزَّانِي كَأَنَّهُ بَاشَرَ الزِّنَا طَوْعًا، وَعَلَى قَوْلِهِمَا لَا حَدَّ عَلَيْهِ، فَظَنَّ بَعْضُ مَشَايِخِنَا أَنَّ الْخِلَافَ بَيْنَهُمْ فِي الزِّنَا خَاصَّةً، وَأَمَّا فِي غَيْرِهِ فَإِكْرَاهُ غَيْرِ السُّلْطَانِ وَإِكْرَاهُ السُّلْطَانِ سَوَاءٌ عِنْدَهُمْ جَمِيعًا. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الْخِلَافُ فِي الزِّنَا وَغَيْرِهِ مِنْ الْأَحْكَامِ أَيْضًا سَوَاءٌ. وَاخْتَلَفُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ: بَعْضُهُمْ قَالَ هَذَا اخْتِلَافُ عَصْرٍ وَزَمَانٍ، وَبَعْضُهُمْ قَالَ هَذَا اخْتِلَافُ حُجَّةٍ وَبُرْهَانٍ انْتَهَى فَتَدَبَّرْ
(قَوْلُهُ لِأَنَّ الرِّدَّةَ تَتَعَلَّقُ بِالِاعْتِقَادِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنًّا بِالْإِيمَانِ لَا يَكْفُرُ وَفِي اعْتِقَادِهِ الْكُفْرَ شَكٌّ فَلَا تَثْبُتُ الْبَيْنُونَةُ بِالشَّكِّ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: وَيَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ كَلَامُهُ دَلِيلَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنْ يُقَالَ إنَّ الرِّدَّةَ بِتَبَدُّلِ الِاعْتِقَادِ وَتَبَدُّلُ الِاعْتِقَادِ لَيْسَ بِثَابِتٍ لِقِيَامِ الدَّلِيلِ وَهُوَ الْإِكْرَاهُ.
وَالثَّانِي
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute