للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ اسْتِحْسَانًا، لِأَنَّ اللَّفْظَ غَيْرُ مَوْضُوعٍ لِلْفُرْقَةِ وَهِيَ بِتَبَدُّلِ الِاعْتِقَادِ وَمَعَ الْإِكْرَاهِ لَا يَدُلُّ عَلَى التَّبَدُّلِ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ، بِخِلَافِ الْإِكْرَاهِ عَلَى الْإِسْلَامِ حَيْثُ يَصِيرُ بِهِ مُسْلِمًا، لِأَنَّهُ لَمَّا احْتَمَلَ وَاحْتَمَلَ رَجَّحْنَا الْإِسْلَامَ فِي الْحَالَيْنِ لِأَنَّهُ يَعْلُو وَلَا يُعْلَى

أَنْ يُقَالَ الرِّدَّةُ بِاعْتِقَادِ الْكُفْرِ وَفِي اعْتِقَادِهِ الْكُفْرَ شَكٌّ لِأَنَّهُ أَمْرٌ مُغَيَّبٌ لَا يُطَّلَعُ عَلَيْهِ إلَّا بِتَرْجَمَةِ اللِّسَانِ، وَقِيَامُ الْإِكْرَاهِ يَصْرِفُ عَنْ صِحَّةِ التَّرْجَمَةِ فَلَا تَثْبُتُ الْبَيْنُونَةُ الْمُتَرَتِّبَةُ عَلَى الْكُفْرِ بِالشَّكِّ انْتَهَى.

أَقُولُ: لَا يَذْهَبُ عَلَى ذِي فِطْرَةٍ سَلِيمَةٍ أَنَّ مَا قَالَهُ لَغْوٌ مِنْ الْكَلَامِ، لِأَنَّ مَا زَعَمَهُ دَلِيلَانِ مُتَّحِدَانِ فِي الْمَعْنَى، وَإِنَّمَا التَّغَايُرُ بَيْنَهُمَا فِي بَعْضِ الْأَلْفَاظِ وَهُوَ تَبَدُّلُ الِاعْتِقَادِ فِي الْأَوَّلِ وَاعْتِقَادُ الْكُفْرِ فِي الثَّانِي، وَلَا رَيْبَ أَنَّ تَبَدُّلَ اعْتِقَادِ الْمُسْلِمِ إنَّمَا يَكُونُ بِاعْتِقَادِ الْكُفْرِ فَاتَّحَدَا مَعْنًى فَمَا مَعْنَى جَعْلِهِمَا دَلِيلَيْنِ؟ وَإِنْ جُعِلَ مَدَارَ جَعْلِهِمَا دَلِيلَيْنِ مُجَرَّدُ تَغَايُرِهِمَا فِي اللَّفْظِ فَلَا مَعْنَى لِجَعْلِ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ دَلِيلَيْنِ أَيْضًا، لِأَنَّ الْوَاقِعَ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ هُوَ اللَّفْظُ الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ كَمَا تَرَى (قَوْلُهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ اسْتِحْسَانًا لِأَنَّ اللَّفْظَ غَيْرُ مَوْضُوعٍ لِلْفُرْقَةِ وَهِيَ بِتَبَدُّلِ الِاعْتِقَادِ وَمَعَ الْإِكْرَاهِ لَا يَدُلُّ عَلَى التَّبَدُّلِ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي حَلِّ هَذَا الْمَحَلِّ: وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ اللَّفْظَ يَعْنِي كَلِمَةَ الْكُفْرِ غَيْرُ مَوْضُوعٍ لِلْفُرْقَةِ: يَعْنِي لَمْ يَظْهَرْ مِنْهَا ظُهُورًا بَيِّنًا مِنْ حَيْثُ الْحَقِيقَةُ حَتَّى يَكُونَ صَرِيحًا يَقُومُ اللَّفْظُ فِيهِ مَقَامَ مَعْنَاهُ كَمَا فِي الطَّلَاقِ، بَلْ دَلَالَتُهُ عَلَيْهَا مِنْ حَيْثُ إنَّ اللَّفْظَ دَلِيلٌ وَتَرْجَمَةٌ لِمَا فِي الْقَلْبِ.

فَإِنْ دَلَّ عَلَى تَبَدُّلِ الِاعْتِقَادِ الْمُسْتَلْزِمِ لِلْفُرْقَةِ كَانَ دَلَالَتُهُ عَلَيْهَا دَلَالَةً مَجَازِيَّةً وَمَعَ الْإِكْرَاهِ لَا يَدُلُّ عَلَى التَّبَدُّلِ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ صَرِيحًا فِيهِ يَقُومُ لَفْظُهُ مَقَامَ مَعْنَاهُ فَلِهَذَا كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ انْتَهَى كَلَامُهُ.

أَقُولُ: فِيهِ خَلَلٌ، فَإِنَّ قَوْلَهُ فَإِنْ دَلَّ عَلَى تَبَدُّلِ الِاعْتِقَادِ الْمُسْتَلْزِمِ لِلْفُرْقَةِ كَانَ دَلَالَتُهُ عَلَيْهَا دَلَالَةً مَجَازِيَّةً لَا يَكَادُ يَتِمُّ، إذْ لَا بُدَّ فِي الْمَجَازِ مِنْ كَوْنِ اللَّفْظِ مُسْتَعْمَلًا فِي الْمَعْنَى الْمَجَازِيِّ، وَلَا شَكَّ أَنَّ اللَّفْظَ هَاهُنَا وَهُوَ كَلِمَةُ الْكُفْرِ غَيْرُ مُسْتَعْمَلٍ فِي الْفُرْقَةِ لَا حَقِيقَةً وَلَا مَجَازًا، وَإِنَّمَا هِيَ: أَيْ الْفُرْقَةُ أَثَرٌ لَازِمٌ لِمَعْنَى اللَّفْظِ وَهُوَ الِاعْتِقَادُ الرَّدِيءُ، فَلَمْ تَكُنْ دَلَالَةُ اللَّفْظِ عَلَيْهَا مَجَازِيَّةً بَلْ كَانَتْ الْتِزَامِيَّةً مَحْضَةً، فَكَانَ انْفِهَامُهَا مِنْ اللَّفْظِ بِطَرِيقِ الِاسْتِتْبَاعِ لَا بِطَرِيقِ الْأَصَالَةِ فَصَارَتْ مِنْ قَبِيلِ مُسْتَتْبَعَاتِ الْأَلْفَاظِ الْمُغَايِرَةِ لِلْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ عَلَى مَا عُرِفَ فِي عِلْمِ الْبَلَاغَةِ.

فَإِنْ قُلْتَ: يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالْمَجَازِيَّةِ هَاهُنَا الْمُتَجَاوِزَةُ عَنْ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ إلَى أَيِّ شَيْءٍ كَانَ، لَا الْمُتَجَاوِزَةُ عَنْ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ إلَى الْمَعْنَى الْمَجَازِيِّ فَقَطْ فَتَعُمُّ مُسْتَتْبَعَاتِ الْأَلْفَاظِ أَيْضًا. قُلْتُ: هَذَا الْمَعْنَى مَعَ كَوْنِهِ مُخَالِفًا لِلْعُرْفِ وَالِاصْطِلَاحِ بِالْكُلِّيَّةِ يَأْبَاهُ جِدًّا قَوْلُهُ مِنْ قَبْلُ: يَعْنِي لَمْ يَظْهَرْ فِيهَا ظُهُورًا بَيِّنًا مِنْ حَيْثُ الْحَقِيقَةُ فَتَأَمَّلْ.

فَالْوَجْهُ الْمُجْمَلُ الْمُفِيدُ الْمُطَابِقُ لِلْمَشْرُوحِ مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ النِّهَايَةِ مَعْزِيًّا إلَى الْإِيضَاحِ حَيْثُ قَالَ: وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ هَذِهِ اللَّفْظَةَ غَيْرُ مَوْضُوعَةٍ لِلْفُرْقَةِ، وَإِنَّمَا تَقَعُ الْفُرْقَةُ بِاعْتِبَارِ تَغَيُّرِ الِاعْتِقَادِ، وَالْإِكْرَاهُ دَلِيلٌ عَلَى عَدَمِ تَغَيُّرِ الِاعْتِقَادِ فَلَا تَقَعُ الْفُرْقَةُ، كَذَا فِي الْإِيضَاحِ اهـ.

(قَوْلُهُ بِخِلَافِ الْإِكْرَاهِ عَلَى الْإِسْلَامِ حَيْثُ يَصِيرُ بِهِ مُسْلِمًا، لِأَنَّهُ لَمَّا احْتَمَلَ وَاحْتَمَلَ رَجَّحْنَا الْإِسْلَامَ فِي الْحَالَيْنِ لِأَنَّهُ يَعْلُو وَلَا يُعْلَى) قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ: وَكَأَنَّ هَذَا إشَارَةٌ إلَى مَا قَالَهُ الْإِمَامُ أَبُو مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِيُّ وَهُوَ الْمَنْقُولُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ : أَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ التَّصْدِيقُ، وَالْإِقْرَارُ بِاللِّسَانِ شَرْطُ إجْرَاءِ الْأَحْكَامِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مَذْهَبَ أَهْلِ أُصُولِ الْفِقْهِ، فَإِنَّهُمْ يَجْعَلُونَ الْإِقْرَارَ رُكْنًا انْتَهَى. أَقُولُ: فِيهِ نَظَرٌ، فَإِنَّ مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ كَيْفَ يَكُونُ إشَارَةً إلَى مَا قَالَهُ الْإِمَامُ أَبُو مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِيُّ

<<  <  ج: ص:  >  >>