بَابُ الْحَجْرِ لِلْفَسَادِ
(قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ﵀: لَا يُحْجَرُ عَلَى الْحُرِّ الْبَالِغِ الْعَاقِلِ السَّفِيهِ، وَتَصَرُّفُهُ فِي مَالِهِ جَائِزٌ وَإِنْ كَانَ مُبَذِّرًا مُفْسِدًا يُتْلِفُ مَالَهُ فِيمَا لَا غَرَضَ لَهُ فِيهِ وَلَا مَصْلَحَةَ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ ﵀: يُحْجَرُ عَلَى السَّفِيهِ وَيُمْنَعُ مِنْ التَّصَرُّفِ فِي مَالِهِ)
(بَابُ الْحَجْرِ لِلْفَسَادِ)
أَخَّرَ هَذَا الْبَابَ لِأَنَّ أَسْبَابَ الْحَجْرِ فِيمَا تَقَدَّمَ عَلَيْهِ سَمَاوِيَّةٌ. وَسَبَبُ الْحَجْرِ هَاهُنَا مُكْتَسَبٌ، وَالسَّمَاوِيُّ فِي التَّأْثِيرِ أَقْوَى فَكَانَ بِالتَّقْدِيمِ أَوْلَى، وَلِأَنَّ الْحَجْرَ فِي الْأَوَّلِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَفِي الثَّانِي مُخْتَلَفٌ فِيهِ، وَالْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ أَحْرَى بِالتَّقْدِيمِ.
قَالَ فِي الْعِنَايَةِ: وَالْمُرَادُ بِالْفَسَادِ هَاهُنَا هُوَ السَّفَهُ، وَهُوَ خِفَّةٌ تَعْتَرِي الْإِنْسَانَ فَتَحْمِلُهُ عَلَى الْعَمَلِ بِخِلَافِ مُوجَبِ الشَّرْعِ وَالْعَقْلِ مَعَ قِيَامِ الْعَقْلِ، وَقَدْ غَلَبَ فِي عُرْفِ الْفُقَهَاءِ عَلَى تَبْذِيرِ الْمَالِ وَإِتْلَافِهِ عَلَى خِلَافِ مُقْتَضَى الْعَقْلِ وَالشَّرْعِ انْتَهَى. أَقُولُ: فِي تَفْسِيرِ كُلٍّ مِنْ مَعْنَى السَّفَهِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ شَيْءٌ. أَمَّا فِي الْأَوَّلِ فَهُوَ أَنَّ الْعَمَلَ بِخِلَافِ مُوجَبِ الْعَقْلِ مَعَ قِيَامِ الْعَقْلِ مُشْكِلٌ، إذْ الظَّاهِرُ أَنَّ مُوجَبَ الشَّيْءِ لَا يَتَخَلَّفُ عَنْهُ، وَعَنْ هَذَا قَالَ فِي الْمَبْسُوطِ وَالْكَافِي: السَّفَهُ هُوَ الْعَمَلُ بِخِلَافِ مُوجَبِ الشَّرْعِ وَاتِّبَاعُ الْهَوَى وَتَرْكُ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْحِجَا.
وَأَمَّا فِي الثَّانِي فَهُوَ أَنَّهُ إنْ كَانَ مَعْنَى السَّفَهِ فِي عُرْفِ الْفُقَهَاءِ تَبْذِيرَ الْمَالِ وَإِتْلَافَهُ عَلَى خِلَافِ مُقْتَضَى الْعَقْلِ وَالشَّرْعِ فَكَيْفَ الْقَوْلُ مِنْ أَبِي حَنِيفَةَ ﵀ بِعَدَمِ الْحَجْرِ عَلَى السَّفِيهِ، إذْ لَا مَسَاغَ لِعَدَمِ الْمَنْعِ عَمَّا هُوَ خِلَافُ مُقْتَضَى الشَّرْعِ عِنْدَ أَحَدِ الْفُقَهَاءِ.
وَيُمْكِنُ الْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِخِلَافِ مُوجَبِ الْعَقْلِ خِلَافُ مُوجَبِ حُكْمِ الْعَقْلِ لَا خِلَافُ مُوجَبِ نَفْسِ الْعَقْلِ، فَاللَّازِمُ عَدَمُ التَّخَلُّفِ عَنْ حُكْمِ الْعَقْلِ لَا عَنْ نَفْسِهِ وَلَا مَحْذُورَ فِيهِ لِإِمْكَانِ الْعَمَلِ بِخِلَافِ مَا أَوْجَبَهُ حُكْمُ الْعَقْلِ كَمَا هُوَ حَالُ النُّفُوسِ الْخَبِيثَةِ. وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّ مَا هُوَ عَلَى خِلَافِ مُقْتَضَى الشَّرْعِ يَجِبُ أَنْ يُنْهَى عَنْهُ مُرْتَكِبُهُ بِاللِّسَانِ عَلَى الِاتِّفَاقِ، وَمِنْهُ عَمَلُ السَّفِيهِ بِالسَّفَهِ. وَأَمَّا الْحَجْرُ عَنْهُ بِمَعْنَى إبْطَالِ حُكْمِ التَّصَرُّفِ بِالْكُلِّيَّةِ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ التَّصَرُّفُ فِي نَفْسِ مَالِ التَّصَرُّفِ فَهُوَ أَمْرٌ آخَرُ وَرَاءَ ذَلِكَ لَمْ يَقُلْ بِهِ أَبُو حَنِيفَةَ بِنَاءً عَلَى اسْتِدْعَائِهِ ضَرَرًا أَشَدَّ مِنْ ضَرَرِ إتْلَافِ الْمَالِ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي الْكِتَابِ.
وَقَالَ فِي النِّهَايَةِ: ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ مَسَائِلَ هَذَا الْبَابِ كُلَّهَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، لَا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ﵀ فَإِنَّهُ لَا يَرَى الْحَجْرَ لِلْفَسَادِ وَالسَّفَهِ أَصْلًا انْتَهَى. أَقُولُ: لَيْسَ هَذَا الْكَلَامُ بِسَدِيدٍ، فَإِنَّ أَكْثَرَ مَسَائِلِ هَذَا الْبَابِ مِمَّا اتَّفَقَ عَلَيْهِ أَبُو حَنِيفَةَ وَصَاحِبَاهُ كَقَوْلِهِ وَإِنْ أَعْتَقَ عَبْدًا نَفَذَ عِتْقُهُ، وَقَوْلُهُ وَلَوْ دَبَّرَ عَبْدَهُ جَازَ، وَقَوْلُهُ وَلَوْ جَاءَتْ جَارِيَتُهُ بِوَلَدٍ فَادَّعَاهُ ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُ وَكَانَ الْوَلَدُ حُرًّا وَالْجَارِيَةُ أُمَّ وَلَدِهِ، وَقَوْلُهُ وَإِنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً جَازَ نِكَاحُهَا وَإِنْ سَمَّى لَهَا مَهْرًا جَازَ مِنْهُ مِقْدَارُ مَهْرِ مِثْلِهَا.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute