وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يَقْسِمُ الْقَاضِي عِنْدَهُ أَيْضًا، لِأَنَّ الْمَنَافِعَ مِنْ حَيْثُ الْخِدْمَةِ قَلَّمَا تَتَفَاوَتُ، بِخِلَافِ أَعْيَانِ الرَّقِيقِ لِأَنَّهَا تَتَفَاوَتُ تَفَاوُتًا فَاحِشًا عَلَى مَا تَقَدَّمَ (وَلَوْ تَهَايَئَا فِيهِمَا عَلَى أَنَّ نَفَقَةَ كُلِّ عَبْدٍ عَلَى مَنْ يَأْخُذُهُ جَازَ) اسْتِحْسَانًا لِلْمُسَامَحَةِ فِي إطْعَامِ الْمَمَالِيكِ بِخِلَافِ شَرْطِ الْكِسْوَةِ لَا يُسَامَحُ فِيهَا (وَلَوْ تَهَايَئَا فِي دَارَيْنِ عَلَى أَنْ يَسْكُنَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا دَارًا جَازَ وَيُجْبِرُ الْقَاضِي عَلَيْهِ) وَهَذَا عِنْدَهُمَا ظَاهِرٌ، لِأَنَّ الدَّارَيْنِ عِنْدَهُمَا كَدَارٍ وَاحِدَةٍ.
وَقَدْ قِيلَ لَا يُجْبِرُ عِنْدَهُ اعْتِبَارًا بِالْقِسْمَةِ. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّهَايُؤُ فِيهِمَا أَصْلًا بِالْجَبْرِ لِمَا قُلْنَا، وَبِالتَّرَاضِي لِأَنَّهُ بَيْعُ السُّكْنَى بِالسُّكْنَى، بِخِلَافِ قِسْمَةِ رَقَبَتِهِمَا لِأَنَّ بَيْعَ بَعْضُ أَحَدِهِمَا بِبَعْضِ الْآخَرِ جَائِزٌ. وَجْهُ الظَّاهِرِ أَنَّ التَّفَاوُتَ يَقِلُّ فِي الْمَنَافِعِ فَيَجُوزُ بِالتَّرَاضِي وَيَجْرِي فِيهِ جَبْرُ الْقَاضِي وَيُعْتَبَرُ إفْرَازًا أَمَّا يَكْثُرُ التَّفَاوُتُ فِي أَعْيَانِهِمَا فَاعْتُبِرَ مُبَادَلَةً (وَفِي الدَّابَّتَيْنِ لَا يَجُوزُ التَّهَايُؤُ عَلَى الرُّكُوبِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا يَجُوزُ) اعْتِبَارًا بِقِسْمَةِ الْأَعْيَانِ.
وَلَهُ أَنَّ الِاسْتِعْمَالَ يَتَفَاوَتُ بِتَفَاوُتِ الرَّاكِبِينَ فَإِنَّهُمْ بَيْنَ حَاذِقٍ وَأَخْرَقَ. وَالتَّهَايُؤُ فِي الرُّكُوبِ فِي دَابَّةٍ وَاحِدَةٍ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ لِمَا قُلْنَا، بِخِلَافِ الْعَبْدِ لِأَنَّهُ يَخْدُمُ بِاخْتِيَارِهِ فَلَا يَتَحَمَّلُ زِيَادَةً عَلَى طَاقَتِهِ وَالدَّابَّةُ تَحْمِلُهَا. وَأَمَّا التَّهَايُؤُ فِي الِاسْتِغْلَالِ يَجُوزُ فِي الدَّارِ الْوَاحِدَةِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ
مِنْ وَجْهٍ، مُبَادَلَةً مِنْ وَجْهٍ حَتَّى لَا يَنْفَرِدَ أَحَدُهُمَا بِهَذِهِ الْمُهَايَأَةِ، وَإِذَا طَلَبَهَا أَحَدُهُمَا وَلَمْ يَطْلُبْ الْآخَرُ قِسْمَةَ الْأَصْلِ أُجْبِرَ عَلَيْهَا، وَقِيلَ تُعْتَبَرُ إفْرَازًا مِنْ وَجْهٍ، عَارِيَّةً مِنْ وَجْهٍ، لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ مُبَادَلَةً لَمَا جَازَتْ فِي الْجِنْسِ الْوَاحِدِ لِأَنَّهُ يَكُونُ مُبَادَلَةَ الْمَنْفَعَةِ بِجِنْسِهَا وَأَنَّهُ يُحَرِّمُ رِبَا النَّسَاءِ وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ لِأَنَّ الْعَارِيَّةَ لَيْسَ فِيهَا عِوَضٌ وَهَذَا بِعِوَضٍ وَرِبَا النَّسَاءِ ثَابِتٌ عِنْدَ أَحَدِ وَصْفَيْ الْعِلَّةِ بِالنَّصِّ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ فِيمَا هُوَ مُبَادَلَةٌ فِي الْأَعْيَانِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَلَا يَتَعَدَّى إلَى غَيْرِهِ انْتَهَى أَقُولُ: هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ مَأْخُوذٌ مِنْ الذَّخِيرَةِ وَالْمَبْسُوطِ، وَقَدْ ذَكَرَ فِي النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ أَيْضًا بِنَوْعِ تَفْصِيلٍ وَلَكِنْ فِيهِ بَحْثٌ، وَهُوَ أَنَّهُ قَدْ مَرَّ فِي كِتَابِ الْإِجَارَاتِ أَنَّ إجَارَةَ الْمَنَافِعِ بِجِنْسِهَا كَإِجَارَةِ السُّكْنَى بِالسُّكْنَى وَاللُّبْسِ بِاللُّبْسِ وَالرُّكُوبِ بِالرُّكُوبِ غَيْرُ صَحِيحَةٍ عِنْدَنَا.
وَقَالُوا فِي تَعْلِيلِ ذَلِكَ: إنَّ الْجِنْسَ بِانْفِرَادِهِ يُحَرِّمُ النَّسَاءَ عِنْدَنَا فَصَارَ كَبَيْعِ الْقُوهِيُّ بِالْقُوهِيِّ نَسِيئَةً. وَقَالَ الْمُصَنِّفُ هُنَاكَ: وَإِلَيْهِ أَشَارَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَلَوْ كَانَ رِبَا النَّسَاءِ عِنْدَ وُجُودِ أَحَدِ وَصْفَيْ الْعِلَّةِ وَهِيَ الْقَدْرُ مَعَ الْجِنْسِ مُخْتَصًّا بِمَوْرِدِ النَّصِّ وَهُوَ الْبَيْعُ غَيْرَ مُتَعَدٍّ إلَى غَيْرِهِ لَمَا تَمَّ. اسْتَدَلَّ أَئِمَّتُنَا فِي الْإِجَارَاتِ عَلَى عَدَمِ صِحَّةِ إجَارَةِ الْمَنَافِعِ بِجِنْسِهَا بِرِبَا النَّسَاءِ. نَعَمْ لَنَا دَلِيلٌ آخَرُ عَلَى عَدَمِ صِحَّةِ ذَلِكَ كَمَا مَرَّ أَيْضًا فِي الْكِتَابِ هُنَاكَ لَكِنَّ الْكَلَامَ فِي الدَّلِيلِ الْأَوَّلِ الَّذِي ارْتَضَاهُ فُحُولُ الْفُقَهَاءِ قَاطِبَةً حَتَّى أَشَارَ إلَيْهِ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَقَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ بَعْدَ كَلَامِهِ السَّابِقِ: وَإِنْ كَانَتْ فِي الْجِنْسِ الْمُخْتَلِفِ كَالدُّورِ وَالْعَبِيدِ تُعْتَبَرُ مُبَادَلَةً مِنْ كُلِّ وَجْهٍ حَتَّى لَا تَجُوزَ بِدُونِ رِضَاهُمَا، لِأَنَّ الْمُهَايَأَةَ قِسْمَةُ الْمَنَافِعِ وَقِسْمَةُ الْمَنَافِعِ مُعْتَبَرَةٌ بِقِسْمَةِ الْأَعْيَانِ وَقِسْمَةُ الْأَعْيَانِ اُعْتُبِرَتْ مُبَادَلَةً مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فِي الْجِنْسِ الْمُخْتَلِفِ، فَكَذَا قِسْمَةُ الْمَنَافِعِ انْتَهَى، أَقُولُ: وَهَذَا أَيْضًا مَأْخُوذٌ مِنْ الْكُتُبِ الْمَذْكُورَةِ وَلَكِنَّهُ مَحَلُّ بَحْثٍ أَيْضًا.
أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّهُ قَدْ ذَكَرَ فِي الْكِتَابِ مِنْ قَبْلِ أَنَّ التَّهَايُؤَ مِنْ حَيْثُ الْمَكَانِ إفْرَازٌ لِجَمِيعِ الْأَنْصِبَاءِ لَا مُبَادَلَةً، وَلِهَذَا لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ التَّأْقِيتُ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ التَّهَايُؤَ فِي الْجِنْسِ الْمُخْتَلِفِ إنَّمَا يُتَصَوَّرُ بِأَنْ انْتَفَعَ أَحَدُ الْوَرَثَةِ بِأَحَدِ الْأَجْنَاسِ وَالْآخَرُ بِالْآخَرِ كَمَا فِي الدُّورِ وَالْعَبِيدَ فَيَصِيرُ مِنْ قَبِيلِ التَّهَايُؤِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute