. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[غمز عيون البصائر]
وَذَلِكَ هُوَ الَّذِي وَرَدَ بِهِ النَّصُّ، وَأَمَّا بَيَانُ كَوْنِهِ لَمْ يُخَالِفْ سُنَّةً مُشْتَهِرَةً فَظَاهِرٌ أَيْضًا، بَلْ نَقُولُ: إنَّ السُّنَّةَ جَرَتْ بِإِقَامَةِ الْخَطِّ مَقَامَ الْخِطَابِ فَقَدْ صَرَّحَ الْخَصَّافُ وَالصَّفَّارُ وَغَيْرُهُمَا فِي بَابِ كِتَابِ الْقَاضِي بِذَلِكَ وَاسْتَدَلَّ بِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، وَبِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَتَبَ إلَى الْمُلُوكِ، وَقَامَ الْكِتَابُ مَقَامَ الْخِطَابِ فِي اللُّزُومِ وَلَزِمْنَا أَمْرُ اللَّهِ تَعَالَى.
وَكَذَا كَانَ زَمَنُ الْخَلِيفَةِ بَعْدَهُ، وَالْقُضَاةُ يَعْمَلُونَ بِذَلِكَ مِنْ لَدُنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى يَوْمِنَا هَذَا مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ.
فَكَانَ كِتَابُ الْقَاضِي كَخِطَابِهِ وَأُسْنِدَ إلَى الشَّعْبِيِّ وَالْحَسَنِ أَنَّهُمَا كَانَا يَعْمَلَانِ بِالْكِتَابِ إذَا جَاءَهُمَا بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ.
وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ مِثْلُ ذَلِكَ فِي الْقَاضِي إذَا كَتَبَ لِلْأَمِيرِ رُقْعَةً وَقَصَّ فِيهَا قِصَّةً وَبَعَثَهَا إلَى الْأَمِيرِ مَعَ نَفَقَةٍ، وَلَمْ يُشْهِدْ عَلَيْهِ.
قَالَ: اُسْتُحْسِنَ أَنْ يُنَفِّذَهُ إذَا كَانَ فِي غَيْرِ حَدٍّ فَمَنْ ادَّعَى أَنَّهُ سُنَّةٌ مُشْتَهِرَةٌ وَرُدَّتْ بِالْمَنْعِ فَعَلَيْهِ الْبَيَانُ. وَأَمَّا كَوْنُهُ لَمْ يُخَالِفْ الْإِجْمَاعَ فَظَهَرَ مِمَّا قَدَّمْنَاهُ مِنْ اعْتِمَادِ الصَّحَابَةِ عَلَى الْخَطِّ وَقِيَامِهِ عِنْدَهُمْ مَقَامَ الْخِطَابِ، وَلَا جَائِزَ أَنْ يَنْعَقِدَ إجْمَاعٌ بَعْدَ التَّابِعِينَ.
وَمَالِكٌ وَأَحْمَدُ يُخَالِفَانِ فِيهِ، فَظَهَرَ لَك بِهَذَا أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ لَمْ يُخَالِفْ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَالْإِجْمَاعَ وَجَمِيعُ كُتُبِ الْمَذْهَبِ مُصَرِّحَةٌ بِأَنَّهُ إنَّمَا لَا يَنْفُذُ مَا خَالَفَ ذَلِكَ.
فَإِنْ قُلْت الْمُعْتَبَرُ فِي صَيْرُورَةِ الْمَحَلِّ مُجْتَهَدًا فِيهِ اخْتِلَافُ الصَّحَابَةِ، وَمَنْ مَعَهُمْ، وَلَمْ يُنْقَلْ هُنَا؟ قُلْت: هَذَا فِيمَا اخْتِلَافُهُمْ أَمَّا الَّذِي لَيْسَ عَنْهُمْ فِيهِ كَلَامٌ بِجَوَازٍ وَلَا بِمَنْعٍ.
وَقَالَ الْمُجْتَهِدُ: فِيهِ قَوْلًا اُسْتُنِدَ فِيهِ إلَى دَلِيلٍ وَخَالَفَهُ الْآخَرُ فَقَضَى قَاضٍ بِمَا أَدَّى عَلَيْهِ اجْتِهَادُ وَاحِدٍ مِنْهُمْ نَفَذَ حَيْثُ لَمْ يَكُنْ مُخَالِفًا لِمَا ذُكِرَ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ مِنْ كَلَامِ مَشَايِخِنَا مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَحَلَّ مَحَلُّ اجْتِهَادٍ بِدُونِ اسْتِنَادِهِ إلَى حُكْمِ حَاكِمٍ يَرَاهُ حُجَّةً فَكَيْفَ، وَقَدْ انْضَمَّ إلَى الْحُكْمِ بِذَلِكَ حَاكِمٌ آخَرُ يَرَاهُ جَائِزًا بِإِمْضَائِهِ وَإِجَازَتِهِ.
وَالْقَوْلُ بِأَنَّ اخْتِلَافَ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَالشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يُعْتَبَرُ فِي صَيْرُورَةِ الْمَحَلِّ مُجْتَهَدًا فِيهِ قَوْلُ الْخَصَّافِ وَحْدَهُ.
وَقَدْ أَشَارَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ إلَى اعْتِبَارِهِ. وَصَرَّحَ الصَّدْرُ الشَّهِيدُ فِي فَتَاوَاهُ بِأَنَّ الْمُخْتَلَفَ بَيْنَ السَّلَفِ كَالْمُخْتَلَفِ بَيْنَ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - مُسْتَدِلًّا عَلَى ذَلِكَ بِمَا نَقَلَهُ عَنْ مَأْذُونِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ خُوَاهَرْ زَادَهْ: الْقَاضِي إذَا قَضَى فِي الْمَأْذُونِ فِي النَّوْعِ أَنَّهُ مَأْذُونٌ فِي نَوْعٍ وَاحِدٍ عِنْدَ شَرَائِطِ الْقَضَاءِ يَصِيرُ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ حَتَّى لَوْ رُفِعَ إلَى قَاضٍ آخَرَ يَرَى خِلَافَهُ أَمْضَاهُ وَلَا يُبْطِلُهُ، ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ فِي الْمَأْذُونِ الْكَبِيرِ وَقَدْ صَرَّحَ الْمُحَقِّقُ ابْنُ الْهُمَامِ فِي شَرْحِ الْهِدَايَةِ بِأَنَّ الْقَوْلَ بِعَدَمِ اعْتِبَارِ خِلَافِ