يَتَنَاوَلُ الْيَدَ كُلَّهَا إلَى الْمَنْكِبِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: ٣٨] إلَّا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ بِقَطْعِ يَدِ السَّارِقِ مِنْ الزَّنْدِ وَفِعْلُهُ بَيَانٌ.
قَوْلُهُ: (وَتُحْسَمُ) لِأَنَّهَا إذَا لَمْ تُحْسَمْ أَدَّى إلَى التَّلَفِ وَصُورَةُ الْحَسْمِ أَنْ تُجْعَلَ يَدُهُ بَعْدَ الْقَطْعِ فِي دُهْنٍ قَدْ أُغْلِيَ بِالنَّارِ لِيَنْقَطِعَ الدَّمُ قَالَ فِي الذَّخِيرَةِ وَأُجْرَةُ الْقَاطِعِ وَثَمَنُ الدُّهْنِ عَلَى السَّارِقِ لِأَنَّ مِنْهُ سَبَبَ ذَلِكَ وَهُوَ السَّرِقَةُ قَالُوا: وَلَا يُقْطَعُ فِي الْحَرِّ الشَّدِيدِ وَلَا فِي الْبَرْدِ الشَّدِيدِ بَلْ يُحْبَسُ حَتَّى يَتَوَسَّطَ الْأَمْرُ فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ: (فَإِنْ سَرَقَ ثَانِيًا قُطِعَتْ رِجْلُهُ الْيُسْرَى) لِأَنَّهُ لَوْ قُطِعَتْ يَدُهُ الْيُسْرَى ذَهَبَتْ مَنْفَعَةُ الْجِنْسِ قَوْلُهُ: (فَإِنْ سَرَقَ ثَالِثًا لَمْ يُقْطَعْ وَخُلِّدَ فِي السَّجْنِ حَتَّى يَتُوبَ) أَوْ يَمُوتَ وَيُعَزَّرُ أَيْضًا وَإِنْ كَانَ لِلسَّارِقِ كَفَّانِ فِي مِعْصَمٍ وَاحِدٍ قَالَ بَعْضُهُمْ يُقْطَعَانِ جَمِيعًا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ إنْ تَمَيَّزَتْ الْأَصْلِيَّةُ وَأَمْكَنَ الِاقْتِصَارُ عَلَى قَطْعِهَا لَمْ تُقْطَعْ الزَّائِدَةُ وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ قُطِعَا جَمِيعًا وَهَذَا هُوَ الْمُخْتَارُ فَإِنْ كَانَ يَبْطِشُ بِأَحَدِهِمَا قُطِعَتْ الْبَاطِشَةُ فَإِنْ سَرَقَ ثَانِيًا قُطِعَتْ رِجْلُهُ الْيُسْرَى وَلَا تُقْطَعُ هَذِهِ الزَّائِدَةُ.
قَوْلُهُ: (وَإِنْ كَانَ السَّارِقُ أَشَلَّ الْيَدِ الْيُسْرَى أَوْ أَقْطَعَ أَوْ مَقْطُوعَ الرِّجْلِ الْيُمْنَى لَمْ يُقْطَعْ) وَكَذَا إذَا كَانَتْ رِجْلُهُ الْيُمْنَى شَلَّاءَ وَيَضْمَنُ الْمَالَ كُلَّهُ وَإِنْ كَانَتْ الْيَدُ الْيُمْنَى شَلَّاءَ أَوْ مَقْطُوعَةَ الْأَصَابِعِ أَوْ مَقْطُوعَةَ الْإِبْهَامِ أَوْ أُصْبُعَيْنِ سِوَى الْإِبْهَامِ فَإِنَّهَا تُقْطَعُ مِنْ الزَّنْدِ لِأَنَّهَا إذَا كَانَتْ صَحِيحَةً قُطِعَتْ فَكَذَا إذَا كَانَتْ شَلَّاءَ وَإِنْ كَانَتْ الْيُمْنَى مَقْطُوعَةً قَبْلَ ذَلِكَ قُطِعَتْ رِجْلُهُ الْيُسْرَى مِنْ الْمِفْصَلِ فَإِنْ كَانَتْ رِجْلُهُ الْيُسْرَى مَقْطُوعَةً قَبْلَ ذَلِكَ لَمْ يُقْطَعْ وَيَضْمَنُ السَّرِقَةَ وَيُحْبَسُ حَتَّى يَتُوبَ وَإِذَا قَالَ الْحَاكِمُ لِلْحَدَّادِ: اقْطَعْ يَمِين هَذَا فِي سَرِقَةٍ فَقَطَعَ يَسَارَهُ عَمْدًا لَا شَيْءَ عَلَيْهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لِأَنَّهُ أَتْلَفَهَا بِبَدَلٍ وَهِيَ الْيُمْنَى فَأَتْلَفَ وَأَخْلَفَ مِنْ جِنْسِهِ مَا هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ فَلَا يُعَدُّ إتْلَافًا وَعِنْدَهُمَا يَضْمَنُ الْقَاطِعُ فِي الْعَمْدِ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِي الْخَطَأِ.
وَقَالَ زُفَرُ: يَضْمَنُ فِي الْخَطَأِ أَيْضًا لِأَنَّهُ قَطَعَ يَدًا مَعْصُومَةً، وَالْخَطَأُ فِي حَقِّ الْعِبَادِ غَيْرُ مَوْضُوعٍ أَيْ غَيْرُ مَعْفُوٍّ عَنْهُ قُلْنَا: إنَّهُ أَخْطَأَ فِي اجْتِهَادِهِ إذْ لَيْسَ فِي النَّصِّ تَعْيِينُ الْيَمِينِ، وَالْخَطَأُ فِي الِاجْتِهَادِ مَعْفُوٌّ عَنْهُ وَلَهُمَا أَنَّهُ قَطَعَ طَرَفًا مَعْصُومًا بِغَيْرِ حَقٍّ وَلَا تَأْوِيلٌ لِأَنَّهُ تَعَمَّدَ الظُّلْمَ فَلَا يُعْفَى وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَجِبَ الْقِصَاصُ إلَّا أَنَّهُ سَقَطَ لِلشُّبْهَةِ ثُمَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ هَلْ يَكُونُ هَذَا الْقَطْعُ لِلسَّرِقَةِ أَمْ لَا؟ قَالَ بَعْضُهُمْ: يَكُونُ عَنْهَا حَتَّى لَا يَجِبَ الْقِصَاصُ عَلَى الْقَاطِعِ.
وَقَالَ الطَّحَاوِيُّ: لَا يَكُونُ عَنْهَا حَتَّى إذَا كَانَ عَمْدًا يَجِبُ الْقِصَاصُ وَإِنْ كَانَ خَطَأً تَجِبُ الدِّيَةُ وَإِنْ كَانَ الْحَدَّادُ قَطَعَ يَدَهُ خَطَأً لَمْ يَضْمَنْ عِنْدَنَا خِلَافًا لِزُفَرَ، وَالْمُرَادُ بِالْخَطَأِ الْخَطَأُ فِي الِاجْتِهَادِ بِأَنْ اجْتَهَدَ، وَقَالَ الْقَطْعُ مُطْلَقٌ فِي النَّصِّ أَمَّا الْخَطَأُ فِي مَعْرِفَةِ الْيَمِينِ، وَالْيَسَارِ وَلَا يُجْعَلُ عَفْوًا.
وَفِي الْمُصَفَّى إذَا قَطَعَهَا خَطَأً لَا يَضْمَنُ سَوَاءٌ أَخْطَأَ فِي الِاجْتِهَادِ أَوْ فِي مَعْرِفَةِ الْيَمِينِ مِنْ الشِّمَالِ قَالَ: وَهُوَ الصَّحِيحُ، وَلَوْ أَخْرَجَ السَّارِقُ يَسَارَهُ فَقَالَ هَذِهِ يَمِينِي فَقَطَعَهَا لَمْ يَضْمَنْ بِالِاتِّفَاقِ لِأَنَّهُ قَطَعَهَا بِأَمْرِهِ وَإِنْ قَطَعَ أَحَدَ يَدِ السَّارِقِ الْيُسْرَى بِغَيْرِ إذْنِ الْحَاكِمِ فَفِي الْخَطَأِ تَجِبُ الدِّيَة، وَفِي الْعَمْدِ يَجِبُ الْقِصَاصُ وَيَسْقُطُ عَنْهُ الْقَطْعُ فِي الْيُمْنَى وَيَضْمَنُ السَّارِقُ الْمَالَ.
قَوْلُهُ: (وَلَا يُقْطَعُ السَّارِقُ إلَّا أَنْ يَحْضُرَ الْمَسْرُوقُ مِنْهُ فَيُطَالِبَ بِالسَّرِقَةِ) لِأَنَّ الْخُصُومَةَ شَرْطٌ فِي ذَلِكَ وَإِنَّمَا قَالَ إلَّا أَنْ يَحْضُرَ الْمَسْرُوقُ مِنْهُ وَلَمْ يَقُلْ إلَّا أَنْ يَحْضُرَ الْمَالِكُ لِأَنَّ عِنْدَنَا يُقْطَعُ بِخُصُومَةٍ لِلْمُسْتَوْدِعِ، وَالْمُسْتَعِيرِ، وَالْمُسْتَأْجِرِ، وَالْمُرْتَهِنِ، وَالْمُضَارِبِ الْمُسْتَبْضِعِ وَكُلِّ مَنْ كَانَتْ لَهُ يَدٌ حَافِظَةٌ سِوَى الْمَالِكِ سَوَاءٌ كَانَ الْمَالِكُ حَاضِرًا أَوْ غَائِبًا وَكَذَا بِخُصُومَةٍ مِمَّنْ كَانَتْ يَدُهُ يَدَ ضَمَانٍ كَمَا إذَا سَرَقَ مِنْ الْغَاصِبِ.
وَقَالَ زُفَرُ وَالشَّافِعِيُّ: إلَّا بِخُصُومَةِ الْمَالِكِ وَإِنْ حَضَرَ الْمَالِكُ وَغَابَ الْمُؤْتَمَنُ فَإِنَّهُ يُقْطَعُ بِخُصُومَتِهِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَإِنْ سَرَقَ مِنْ السَّارِقِ سَارِقٌ آخَرَ بَعْدَ مَا قُطِعَتْ يَمِينُهُ أَوْ قَبْلُ فَإِنَّهُ لَا يُقْطَعُ لِأَنَّ يَدَهُ لَيْسَتْ بِيَدٍ صَحِيحَةٍ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِيَدِ مَالِكٍ وَلَا أَمِينٍ وَلَا ضَمِينٍ وَإِنَّمَا هِيَ يَدٌ ضَائِعَةٌ لَا حَافِظَةٌ فَصَارَ الْأَخْذُ مِنْهُ كَالْأَخْذِ مِنْ الطَّرِيقِ وَلَا يُقْطَعُ بِخُصُومَةِ الْمَالِكِ أَيْضًا لِأَنَّ السَّارِقَ لَمْ يَكُنْ لَهُ يَدٌ صَحِيحَةٌ عَلَى الْمَالِ، وَلَوْ دُرِئَ الْقَطْعُ عَنْ السَّارِقِ ثُمَّ سَرَقَ مِنْهُ سَارِقٌ قُطِعَ لِأَنَّ الْقَطْعَ إذَا دُرِئَ عَنْهُ تَعَلَّقَ بِأَخْذِهِ الضَّمَانَ وَيَدُ الضَّامِنِ يَدٌ صَحِيحَةٌ فَإِزَالَتُهَا تُوجِبُ الْقَطْعَ وَيَصِيرُ السَّارِقُ الْأَوَّلُ كَالْغَاصِبِ وَقَدْ قَالُوا هَلْ لِلسَّارِقِ أَنْ يُطَالِبَ بِرَدِّ الْعَيْنِ الْمَسْرُوقَةِ إلَى يَدِهِ فَفِي رِوَايَةٍ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ لِأَنَّ يَدَهُ لَيْسَتْ بِيَدٍ صَحِيحَةٍ، وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَخْتَارَ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute