وَالْكَرَامَةِ فِي الْآخِرَةِ وَقِيلَ مَعْنَاهُ وَأَنْتُمْ الْغَالِبُونَ وَاَللَّهُ مَعَكُمْ بِالْعَوْنِ وَالنَّصْرِ وَلَا بَأْسَ أَنْ يَطْلُبَ الْمُسْلِمُونَ مُوَادَعَةَ الْمُشْرِكِينَ إذَا خَافُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ مِنْهُمْ وَلَا بَأْسَ أَنْ يُعْطِيَهُمْ الْمُسْلِمُونَ مَالًا عَلَى ذَلِكَ «لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُعْطِي الْمُؤَلَّفَةَ مَالًا لِدَفْعِ ضَرَرِهِمْ عَنْ الْمُسْلِمِينَ» .
قَوْلُهُ (فَإِنْ صَالَحَهُمْ مُدَّةً ثُمَّ رَأَى أَنَّ نَقْضَ الصُّلْحِ أَنْفَعَ نَبَذَ إلَيْهِمْ وَقَاتَلَهُمْ) أَيْ طَرَحَ إلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ فَسَخَ الْعَهْدَ الَّذِي بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ حَتَّى يَبْرَأَ مِنْ الْغَدْرِ وَلَا بُدَّ مِنْ مُدَّةٍ يَبْلُغُ فِيهَا خَبَرُ النَّبْذِ إلَى جَمِيعِهِمْ وَيُكْتَفَى فِي ذَلِكَ بِمُضِيِّ مُدَّةٍ يَتَمَكَّنُ فِيهَا مَلِكُهُمْ بَعْدَ عِلْمِهِ مِنْ إنْفَاذِ الْخَبَرِ إلَى أَطْرَافِ مَمْلَكَتِهِ لِأَنَّ بِذَلِكَ يَنْتَفِي الْغَدْرُ وَقَدْ كَانَ «النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَاهَدَ جَمَاعَةً مِنْ الْمُشْرِكِينَ فَأَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يَنْظُرَ فِي عُهُودِهِمْ فَيُقِرَّ مَنْ كَانَ عَهْدُهُ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ عَلَى عَهْدِهِ إلَى أَنْ تَمْضِيَ وَيَحُطَّ مَنْ كَانَ عَهْدُهُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ إلَى أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَيَرْفَعَ عَهْدَ مَنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْهَا إلَى أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَقَالَ تَعَالَى {بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: ١] إلَى تَمَامِ عَشْرِ آيَاتٍ فَبَعَثَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَبَا بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلَى مَكَّةَ وَمَعَهُ هَذِهِ الْعَشْرُ الْآيَاتُ مِنْ أَوَّلِ سُورَةِ بَرَاءَةٌ وَأَمَرَهُ أَنْ يَقْرَأَهَا عَلَى الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ النَّحْرِ حَيْثُ مُجْتَمَعُهُمْ وَيَنْبِذَ إلَى كُلِّ ذِي عَهْدٍ عَهْدَهُ فَخَرَجَ أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مُتَوَجِّهًا إلَى مَكَّةَ فَنَزَلَ جِبْرِيلُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ لَا يُبَلِّغُ عَنْك إلَّا رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِك فَبَعَثَ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلَى أَبِي بَكْرٍ وَقَالَ لَهُ كُنْ أَنْتَ الَّذِي تَقْرَأُ الْآيَاتِ فَسَارَ حَتَّى لَحِقَ أَبَا بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي الطَّرِيقِ فَأَخْبَرَهُ بِذَلِكَ فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ النَّحْرِ وَاجْتَمَعَ أَهْلُ الشِّرْكِ مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ قَامَ عَلِيٌّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ عِنْدَ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنِّي رَسُولُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَيْكُمْ فَقَالُوا بِمَاذَا قَالَ بِأَنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إلَّا مُؤْمِنٌ وَلَا يَحُجَّنَّ هَذَا الْبَيْتَ بَعْدَ هَذَا الْعَامِ مُشْرِكٌ. وَمَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَهْدٌ فَإِنَّ أَجَلَهُ إلَى أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِذَا مَضَتْ فَإِنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ بَرِيءٌ مِنْهُمْ ثُمَّ قَرَأَ {بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: ١] {فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} [التوبة: ٢] إلَى آخِرِ الْآيَاتِ» وَالْبَرَاءَةُ هِيَ رَفْعُ الْعِصْمَةِ وَقَوْلُهُ {فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ} [التوبة: ٢] أَيْ فَسِيرُوا فِيهَا عَلَى الْمَهْلِ وَأَقْبِلُوا وَأَدْبِرُوا آمَنِينَ غَيْرَ خَائِفِينَ مِنْ قَتْلٍ وَلَا أَسْرٍ وَلَا نَهْبٍ إلَى أَنْ تَمْضِيَ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ فَإِنَّكُمْ وَإِنْ أُجِّلْتُمْ هَذِهِ الْمُدَّةَ فَلَنْ تُعْجِزُوا اللَّهَ {وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ} [التوبة: ٢] فِي الدُّنْيَا بِالْقَتْلِ وَفِي الْآخِرَةِ بِالنَّارِ {وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [التوبة: ٣] أَيْ وَإِعْلَامٌ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إلَى النَّاسِ يَعْنِي الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ وَهُوَ يَوْمُ النَّحْرِ {أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ} [التوبة: ٣] بَرِيءٌ مِنْهُمْ {فَإِنْ تُبْتُمْ} [التوبة: ٣] مِنْ الشِّرْكِ {فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [التوبة: ٣] مِنْ الْإِقَامَةِ عَلَيْهِ وَإِنْ أَعْرَضْتُمْ {فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ} [التوبة: ٣] وقَوْله تَعَالَى {إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: ١] وَهْم حَيٌّ مِنْ كِنَانَةَ عَاهَدَهُمْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ بِأَنْ لَا يُمَالِئُوا عَلَيْهِ عَدُوًّا وَلَا يَأْتِي الْمُسْلِمِينَ مِنْهُمْ أَذًى فَلَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا مِمَّا عَاهَدْتُمُوهُمْ عَلَيْهِ وَلَمْ يُمَالِئُوا عَلَيْكُمْ عَدُوًّا وَكَانَ بَقِيَ لَهُمْ مِنْ عَهْدِهِمْ تِسْعَةُ أَشْهُرٍ فَأَمَرَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَفِيَ لَهُمْ بِعَهْدِهِمْ إلَى مُدَّتِهِمْ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَإِذَا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ} [التوبة: ٥] أَيْ إذَا مَضَتْ هَذِهِ الْأَرْبَعَةُ الْأَشْهُرُ الَّتِي حُرِّمَ الْقِتَالُ فِيهَا بِالْعَهْدِ {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: ٥] فِي الْحِلِّ أَوْ فِي الْحَرَمِ {وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ} [التوبة: ٥] وَامْنَعُوهُمْ مِنْ دُخُولِ مَكَّةَ {وَاقْعُدُوا} [التوبة: ٥] لِقِتَالِهِمْ كُلَّ طَرِيقٍ يَأْخُذُونَ فِيهِ إلَى الْبَيْتِ أَوْ إلَى التِّجَارَةِ وَهَذَا أَمْرٌ بِتَضْيِيقِ السُّبُلِ عَلَيْهِمْ وَهَذِهِ الْأَشْهُرُ هِيَ شَوَّالٌ وَذُو الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمُ وَلَيْسَتْ هِيَ الْأَرْبَعَةُ الْحُرُمُ الْمَعْرُوفَةُ
قَوْلُهُ (فَإِنْ بَدَءُوا بِخِيَانَةٍ قَاتَلَهُمْ وَلَمْ يَنْبِذْ إلَيْهِمْ إذَا كَانَ ذَلِكَ بِاتِّفَاقِهِمْ) ؛ لِأَنَّهُمْ حِينَئِذٍ يَصِيرُونَ نَاقِضِي الْعَهْدِ وَإِذَا كَانَتْ الْمُوَادَعَةُ عَلَى وَقْتٍ مَعْلُومٍ فَمَضَى الْوَقْتُ فَقَدْ بَطَلَ الْعَهْدُ بِغَيْرِ نَبْذٍ فَلَا بَأْسَ أَنْ يُغِيرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِمْ بَعْدَ ذَلِكَ لِأَنَّ الْمُؤَقَّتَ يَبْطُلُ بِمُضِيِّ الْوَقْتِ وَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ دَخَلَ إلَيْنَا بِتِلْكَ الْمُوَادَعَةِ فَمَضَتْ الْمُدَّةُ وَهُوَ فِي دَارِنَا فَهُوَ آمِنٌ حَتَّى يَعُودَ إلَى مَأْمَنِهِ وَلَا يَحِلُّ دَمُهُ وَلَا سَبْيُهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} [التوبة: ٦] قَوْلُهُ (وَإِذَا خَرَجَ عَبِيدُهُمْ إلَى عَسْكَرِ الْمُسْلِمِينَ فَهُمْ أَحْرَارٌ) ؛ لِأَنَّهُمْ أَحْرَزُوا أَنْفُسَهُمْ بِالْخُرُوجِ إلَيْنَا مُرَاغِمِينَ لِمَوَالِيهِمْ وَكَذَا إذَا أَسْلَمُوا هُنَاكَ وَلَمْ يَخْرُجُوا إلَيْنَا وَظَهَرْنَا عَلَى دَارِهِمْ كَانُوا أَحْرَارًا وَلَا يَثْبُتُ الْوَلَاءُ عَلَيْهِمْ مِنْ أَحَدٍ لِأَنَّ هَذَا عِتْقٌ حُكْمِيٌّ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute