للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

حَتَّى فِي الْمِنْهَاجِ، ثُمَّ إِنَّ الْخَصْمَ لَمْ يُخْرِجْ هَذِهِ الْكَلِمَةَ إِلَّا مَخْرَجَ الشَّتْمِ وَالتَّنْقِيصِ، حَيْثُ قَالَ: وَأَنْتَ يَا رَاعِيَ الْمِعْزَى، صَارَ لَكَ كَلَامٌ، وَمِثْلُ هَذَا الْمَوْطِنِ لَا يُحْتَجُّ فِيهِ بِأَحْوَالِ الْأَنْبِيَاءِ أَبَدًا، خُصُوصًا بَيْنَ الْعَوَامِّ، هَذَا لَا يَقُولُهُ مَنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَلْقَى اللَّهَ تَعَالَى.

وَقَدْ تَذَكَّرْتُ هُنَا نُكْتَةً لَطِيفَةً: قَالَ الشَّيْخُ تاج الدين بن السبكي فِي التَّرْشِيحِ: كُنْتُ يَوْمًا فِي دِهْلِيزِ دَارِنَا فِي جَمَاعَةٍ، فَمَرَّ بِنَا كَلْبٌ يَقْطُرُ مَاءً يَكَادُ يَمَسُّ ثِيَابَنَا فَنَهَرْتُهُ، وَقُلْتُ: يَا كَلْبُ يَا ابْنَ الْكَلْبِ، وَإِذَا بِالشَّيْخِ الْإِمَامِ - يَعْنِي وَالِدَهُ الشَّيْخَ تقي الدين السبكي - يَسْمَعُنَا مِنْ دَاخِلٍ، فَلَمَّا خَرَجَ قَالَ: لِمَ شَتَمْتَهُ؟ فَقُلْتُ: مَا قُلْتُ إِلَّا حَقًّا أَلَيْسَ هُوَ بِكَلْبٍ ابْنِ كَلْبٍ؟ فَقَالَ: هُوَ كَذَلِكَ إِلَّا أَنَّكَ أَخْرَجْتَ الْكَلَامَ فِي مَخْرَجِ الشَّتْمِ وَالْإِهَانَةِ وَلَا يَنْبَغِي ذَلِكَ، فَقُلْتُ: هَذِهِ فَائِدَةٌ لَا يُنَادَى مَخْلُوقٌ بِصِفَتِهِ إِذَا لَمْ يَخْرُجْ مَخْرَجَ الْإِهَانَةِ - هَذَا لَفَظُهُ فِي التَّرْشِيحِ.

فَصْلٌ

الْمُمَارَاةُ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَالتَّدْلِيسُ، وَقَصْدُ الِانْتِقَامِ بِالضَّغَائِنِ الْبَاطِنَةِ لَا يَضُرُّ إِلَّا فَاعِلَهُ، وَلَا يُصِيبُ الْمُشَنَّعَ عَلَيْهِ مِنْ ضَرَرِهِ شَيْءٌ وَالْحَقُّ لِلْأَنْبِيَاءِ، وَقَدْ ذَكَرَ السبكي: أَنَّ تَارِكَ الصَّلَاةِ يُخَاصِمُهُ كُلُّ صَالِحٍ؛ لِأَنَّ لِكُلِّ صَالِحٍ فِي الصَّلَاةِ حَقًّا حَيْثُ فِيهَا: السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ، وَكَذَلِكَ الْمُدَلِّسُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ يُخَاصِمُهُ كُلُّ الْأَنْبِيَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَعُدَّتُهُمْ مِائَةُ أَلْفٍ وَأَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ أَلْفًا، وَقَدْ قِيلَ لِيَحْيَى بْنِ مَعِينٍ: أَمَا تَخْشَى أَنْ يَكُونَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ تَرَكْتَ حَدِيثَهُمْ خُصَمَاءَكَ عِنْدَ اللَّهِ؟ فَقَالَ: لَأَنْ يَكُونُوا خُصَمَاءَ لِي أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَصْمِي، يَقُولُ لِي: لِمَ لَمْ تَذُبَّ الْكَذِبَ عَنْ حَدِيثِي؟ وَكَذَلِكَ أَقُولُ: لَأَنْ يَكُونَ كُلُّ أَهْلِ الْعَصْرِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ خُصَمَائِي أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ يُخَاصِمَنِي نَبِيٌّ وَاحِدٌ فَضْلًا عَنْ جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ.

[وَاللَّهُ أَعْلَمُ] .

مَسْأَلَةٌ: رَجُلٌ حَكَمَ بِحُكْمٍ فَأَنْكَرَهُ عَلَيْهِ قُضَاةُ بَلَدِهِ، فَقَالَ لَهُ سُلْطَانُ الْبَلَدَ: ارْجِعْ عَنْ هَذَا الْحُكْمِ فَإِنَّهُ لَمْ يُوَافِقْكَ عَلَيْهِ أَحَدٌ، فَأَبَى وَحَلَفَ أَنَّهُ لَا يَرْجِعُ لِقَوْلِ أَحَدٍ، وَلَوْ قَامَ الْجَنَابُ الْعَالِي عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنْ قَبْرِهِ مَا سَمِعْتُ لَهُ، حَتَّى يُرِيَنِي النَّصَّ، فَهَلْ يُكَفَّرُ بِهَذَا؟ ثُمَّ قَالَ بَعْدَ مُدَّةٍ: لَوْ سَبَّنِي نَبِيٌّ مُرْسَلٌ، أَوْ مَلَكٌ مُقَرَّبٌ لَسَبَبْتُهُ، وَصَارَ يُفْتِي الْعَامَّةَ وَالسُّوقَةَ بِجَوَازِ هَذَا.

الْجَوَابُ: أَمَّا قَوْلُهُ الْأَوَّلُ وَهُوَ قَوْلُهُ: لَا يَرْجِعُ لِأَحَدٍ وَلَوْ قَامَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ قَبْرِهِ مَا سَمِعَ لَهُ حَتَّى يُرِيَهُ النَّصَّ، فَهَذَا لَهُ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ يَكُونَ هَذَا صَدَرَ مِنْهُ عَلَى وَجْهِ سَبْقِ اللِّسَانِ وَعَدَمِ الْقَصْدِ، وَهَذَا هُوَ الظَّنُّ

<<  <  ج: ص:  >  >>