للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَالتَّابِعِينَ [وَأَتْبَاعَ التَّابِعِينَ] لَمْ تَصِحَّ فَتْوَاهُمْ، فَإِنَّ الْمَنْطِقَ إِنَّمَا دَخَلَ بِلَادَ الْإِسْلَامِ فِي حُدُودِ سَنَةِ ثَمَانِينَ وَمِائَةٍ مِنَ الْهِجْرَةِ، فَمَضَى فِي الْإِسْلَامِ هَذِهِ الْمُدَّةُ، وَلَا وُجُودَ لِلْمَنْطِقِ فِيهِ، وَقَدْ كَانَ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ غَالِبُ الْمُجْتَهِدِينَ مِنَ الْأَئِمَّةِ الْمَرْجُوعِ إِلَيْهِمْ فِي أَمْرِ الدِّينِ، أَفَيَظُنُّ عَاقِلٌ مِثْلَ هَذَا الظَّنِّ؟ وَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - نَفْسُهُ عَلَى ذَمِّ الِاشْتِغَالِ بِالْمَنْطِقِ، أَفَيَقُولُ هَذَا الْجَاهِلُ هَذِهِ الْمَقَالَةَ فِي مِثْلِ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -؟ وَمَنْ سَمَّيْنَاهُمْ مِنْ أَئِمَّةِ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ الَّذِينَ دَوَّنُوا الْفِقْهَ، وَأَضْحَوْا سُبُلَ الْفَتَاوَى وَهُمْ عِصْمَةُ الدِّينِ.

وَقَوْلُ هَذَا الْجَاهِلِ: إِنَّ الْغَزَالِيَّ لَيْسَ بِفَقِيهٍ يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ أَنْ يُضْرَبَ بِالسِّيَاطِ ضَرْبًا شَدِيدًا، وَيُحْبَسَ حَبْسًا طَوِيلًا؛ حَتَّى لَا يَتَجَاسَرَ جَاهِلٌ أَنَّ يَتَكَلَّمَ فِي حَقِّ أَحَدٍ مِنْ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ بِكَلِمَةٍ تُشْعِرُ بِنَقْصٍ، وَقَوْلُهُ هَذِهِ الْكَلِمَةَ: صَادِرٌ عَنْ جَهْلٍ مُفْرِطٍ وَقِلَّةِ دِينٍ، فَهُوَ مِنْ أَجْهَلِ الْجَاهِلِينَ، وَأَفْسَقِ الْفَاسِقِينَ، وَلَقَدْ كَانَ الْغَزَالِيُّ فِي عَصْرِهِ حُجَّةَ الْإِسْلَامِ وَسَيِّدَ الْفُقَهَاءِ، وَلَهُ فِي الْفِقْهِ الْمُؤَلَّفَاتُ الْجَلِيلَةُ، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ الْآنَ مَدَارُهُ عَلَى كُتُبِهِ، فَإِنَّهُ نَقَّحَ الْمَذْهَبَ، وَحَرَّرَهُ، وَلَخَّصَهُ فِي الْبَسِيطِ وَالْوَسِيطِ وَالْوَجِيزِ وَالْخُلَاصَةِ، وَكُتُبُ الشَّيْخَيْنِ إِنَّمَا هِيَ مَأْخُوذَةٌ مِنْ كُتُبِهِ.

وَالْحَاصِلُ أَنَّ هَذَا الرَّجُلَ الَّذِي صَدَرَتْ عَنْهُ هَذِهِ الْمَقَالَةُ رَجُلٌ غَلَبَ عَلَيْهِ الْجَهْلُ، وَالْحُمْقُ، وَالْفِسْقُ، فَالْوَاجِبُ عَلَى الْمُحْتَاطِ لِدِينِهِ أَنْ يَهْجُرَهُ فِي اللَّهِ، وَيَتَّخِذَهُ عَدُوًّا يُبْغِضُهُ فِيهِ إِلَى أَنْ تَأْتِيَهُ مِنَ اللَّهِ قَاصِمَةٌ تُلْحِقُهُ بِالْغَابِرِينَ.

وَقَوْلُهُ فِي الْحَشِيشَةِ: مَنِ اسْتَعْمَلَهَا كَفَرَ، لَا يُنْكَرُ عَلَيْهِ إِطْلَاقُ هَذِهِ الْمَقَالَةِ؛ لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ فِي مَعْرِضِ الزَّجْرِ وَالتَّغْلِيظِ، كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «مَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ فَقَدْ كَفَرَ» "، فَيَكُونُ مُؤَوَّلًا عَلَى الْمُسْتَحِلِّ، أَوِ الْمُرَادُ كُفْرُ النِّعْمَةِ لَا كَفْرُ الْمِلَّةِ، فَإِنْ أَرَادَ حَقِيقَةَ الْكُفْرِ مِنْ غَيْرِ تَأْوِيلٍ فَبَاطِلٌ؛ لِأَنَّ مَذْهَبَ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنْ لَا يَكْفُرَ أَحَدٌ بِذَنَبٍ، وَالْعَالِمُ إِذَا أَفْتَى بِمِثْلِ هَذِهِ الْعِبَارَةِ إِنَّمَا يُطْلِقُهَا مُتَأَوِّلًا عَلَى مَا ذَكَرْنَا، وَالْمُجْتَهِدُ لَا يُحَلِّلُ حَرَامًا، وَلَا يُحَرِّمُ حَلَالًا، فَالتَّحْلِيلُ وَالتَّحْرِيمُ لِلَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، بَلْ وَلَا يُحْدِثُ قَوْلًا مِنْ عِنْدِهِ، إِنَّمَا وَظِيفَتُهُ أَنْ يَنْظُرَ فِي أَقْوَالِ مَنْ تَقَدَّمَهُ، وَيَخْتَارَ مَا قَامَ الدَّلِيلُ عِنْدَهُ عَلَى رُجْحَانِهِ.

مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ أَلْهَمَهُ اللَّهُ طِبًّا يُدَاوِي بِهِ الْمُسْلِمِينَ، وَيَحْصُلُ بِهِ نَفْعٌ لَهُمْ، وَدَاوَى بِهِ جَمَاعَةً فِي بَلَدِهِ بِعُشْبٍ مِنَ الْأَعْشَابِ الَّذِي أَلْهَمَهُ اللَّهُ، وَحَصَلَ لَهُمْ بِهِ الشِّفَاءُ، فَاعْتَرَضَ عَلَيْهِ جَمَاعَةُ حُسَّادٍ، وَأَرَادُوا مَنْعَهُ مِنْ مُدَاوَاةِ الْمُسْلِمِينَ فَهَلْ يَجُوزُ لَهُمْ ذَلِكَ أَمْ لَا؟ وَالْحَالُ أَنَّ

<<  <  ج: ص:  >  >>