للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الْمُحَدِّثُونَ وَالْفُقَهَاءُ وَالنُّحَاةُ وَغَيْرُهُمْ لَفْظَ الِاتِّحَادِ فِي مَعَانٍ حِدِيثِيَّةٍ وَفِقْهِيَّةٍ وَنَحْوِيَّةٍ، كَقَوْلِ الْمُحَدِّثِينَ: اتِّحَادُ مَخْرَجِ الْحَدِيثِ، وَقَوْلُ الْفُقَهَاءِ: اتَّحَدَ نَوْعُ الْمَاشِيَةِ، وَقَوْلُ النُّحَاةِ: اتَّحَدَ الْعَامِلُ لَفْظًا أَوْ مَعْنًى، وَحَيْثُ وَقَعَ لَفْظُ الِاتِّحَادِ مِنْ مُحَقِّقِي الصُّوفِيَّةِ فَإِنَّمَا يُرِيدُونَ بِهِ مَعْنَى الْفَنَاءِ الَّذِي هُوَ مَحْوُ النَّفْسِ وَإِثْبَاتُ الْأَمْرِ كُلِّهِ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ، لَا ذَلِكَ الْمَعْنَى الْمَذْمُومُ الَّذِي يَقْشَعِرُّ لَهُ الْجِلْدُ، وَقَدْ أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ سَيِّدِي علي بن وفا فَقَالَ مِنْ قَصِيدَةٍ لَهُ:

يَظُنُّوا بِي حُلُولًا وَاتِّحَادَا ... وَقَلْبِي مِنْ سِوَى التَّوْحِيدِ خَالِي

فَتَبَرَّأَ مِنَ الِاتِّحَادِ بِمَعْنَى الْحُلُولِ وَقَالَ مِنْ أَبْيَاتٍ أُخَرَ:

وَعِلْمُكَ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ أَمْرِي ... هُوَ الْمَعْنَى الْمُسَمَّى بِاتِّحَادِ

فَذَكَرَ أَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي يُرِيدُونَهُ بِالِاتِّحَادِ إِذَا أَطْلَقُوهُ هُوَ تَسْلِيمُ الْأَمْرِ كُلِّهِ لِلَّهِ، وَتَرْكُ الْإِرَادَةِ مَعَهُ، وَالِاخْتِيَارُ وَالْجَرْيُ عَلَى مَوَاقِعِ أَقْدَارِهِ مِنْ غَيْرِ اعْتِرَاضٍ، وَتَرْكُ نِسْبَةِ شَيْءٍ مَا إِلَى غَيْرِهِ.

وَقَالَ صَاحِبُ كِتَابِ نَهْجِ الرَّشَادِ فِي الرَّدِّ عَلَى أَهْلِ الْوَحْدَةِ وَالْحُلُولِ وَالِاتِّحَادِ: حَدَّثَنِي الشَّيْخُ كمال الدين المراغي عَنِ الشَّيْخِ تقي الدين بن دقيق العيد أَنَّهُ قَالَ لَهُ مَرَّةً: الْكُفَّارُ إِنَّمَا انْتَشَرُوا فِي بِلَادِكُمْ لِانْتِشَارِ الْفَلْسَفَةِ هُنَاكَ، وَقِلَّةِ اعْتِنَائِهِمْ بِالشَّرِيعَةِ وَالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، قَالَ: فَقُلْتُ لَهُ: فِي بِلَادِكُمْ مَا هُوَ شَرٌّ مِنْ هَذَا، وَهُوَ قَوْلُ الِاتِّحَادِيَّةِ، فَقَالَ: هَذَا لَا يَقُولُهُ عَاقِلٌ، فَإِنَّ قَوْلَ هَؤُلَاءِ كُلُّ أَحَدٍ يَعْرِفُ فَسَادَهُ، قَالَ: وَحَدَّثَنِي الشَّيْخُ كَمَالُ الدِّينِ الْمَذْكُورُ قَالَ: اجْتَمَعْتُ بِالشَّيْخِ أبي العباس المرسي تِلْمِيذِ الشَّيْخِ الْكَبِيرِ أبي الحسن الشاذلي وَفَاوَضْتُهُ فِي هَؤُلَاءِ الِاتِّحَادِيَّةِ، فَوَجَدْتُهُ شَدِيدَ الْإِنْكَارِ عَلَيْهِمْ وَالنَّهْيَ عَنْ طَرِيقِهِمْ، وَقَالَ: أَتَكُونُ الصَّنْعَةُ هِيَ الصَّانِعَ؟ انْتَهَى، قُلْتُ: وَلِهَذَا كَانَتْ طَرِيقَةُ الشاذلي هِيَ أَحْسَنَ طُرُقِ التَّصَوُّفِ، وَهِيَ فِي الْمُتَأَخِّرِينَ نَظِيرُ طَرِيقَةِ الْجُنَيْدِ فِي الْمُتَقَدِّمِينَ، وَقَدْ قَالَ الشَّيْخُ تاج الدين بن السبكي فِي كِتَابِ جَمْعِ الْجَوَامِعِ: وَإِنَّ طَرِيقَ الشَّيْخِ الجنيد وَصَحْبِهِ طَرِيقٌ مُقَوَّمٌ، وَكَانَ وَالِدُهُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ تقي الدين السبكي يُلَازِمُ مَجْلِسَ الشَّيْخِ تاج الدين بن عطاء الله يَسْمَعُ كَلَامَهُ وَوَعْظَهُ، وَنَقَلَ عَنْهُ فِي كِتَابِهِ الْمُسَمَّى غَيْرَةَ الْإِيمَانِ

<<  <  ج: ص:  >  >>