إِذَا كَانَ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا إِطْلَاقٌ مِنْ وَجْهٍ وَتَقْيِيدٌ مِنْ وَجْهٍ، تُقَيِّدُ إِطْلَاقَ كُلِّ حَدِيثٍ بِتَقْيِيدِ الْآخَرِ كَمَا هُوَ قَاعِدَةُ الْأُصُولِ، وَهَذَا مِنْهُ.
الْوَجْهُ الْخَامِسَ عَشَرَ: قَالَ قَائِلٌ فِي حَدِيثِ الْبُخَارِيِّ: إِنَّهُ يُقَالُ لَهُ عَقِبَ السُّؤَالِ نَمْ صَالِحًا، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا شَيْءَ بَعْدَهُ. وَالْجَوَابُ أَنَّ هَذَا كَلَامُ مَنْ لَمْ يَتَّسِعْ نَظَرُهُ فِي الْحَدِيثِ، وَلَا اطَّلَعَ عَلَى مُصْطَلَحَاتِ الْعُلَمَاءِ الْمُتَكَلِّمِينَ عَلَى الْأَحَادِيثِ، حَيْثُ يَجْمَعُونَ طُرُقَ الْأَحَادِيثِ كُلَّهَا وَرِوَايَاتِهِ، وَيَضُمُّونَ بَعْضَهَا إِلَى بَعْضٍ، وَيَأْخُذُونَ مِنْ كُلِّ حَدِيثٍ مَا فِيهِ مِنْ فَائِدَةٍ زَائِدَةٍ، وَيَقُولُونَ فِيمَا خَلَا مِنْ تِلْكَ الزِّيَادَةِ: هَذَا حَدِيثٌ مُخْتَصَرٌ وَرَدَ فِي غَيْرِهِ زِيَادَةٌ عَلَيْهِ، وَالْحَدِيثُ الَّذِي فِي الْبُخَارِيِّ لَفْظُهُ عَنْ أسماء بنت أبي بكر، أَنَّهَا سَمِعَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّهُ قَدْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّكُمْ تُفْتَنُونَ فِي الْقُبُورِ، فَيُقَالُ: مَا عِلْمُكَ بِهَذَا الرَّجُلِ، فَأَمَّا الْمُؤْمِنُ أَوِ الْمُوقِنُ فَيَقُولُ: هُوَ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، جَاءَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى، فَأَجَبْنَا وَاتَّبَعْنَا، فَيُقَالُ: نَمْ صَالِحًا، قَدْ عَلِمْنَا إِنْ كُنْتَ لَمُؤْمِنًا، وَأَمَّا الْمُنَافِقُ أَوِ الْمُرْتَابُ فَيَقُولُ: مَا أَدْرِي! سَمِعْتُ النَّاسَ يَقُولُونَ شَيْئًا فَقُلْتُهُ» . هَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ عَلَيْهِ، وَهُوَ أَخْصَرُ حَدِيثٍ وَرَدَ فِي السُّؤَالِ.
وَقَدْ وَرَدَ سِوَاهُ أَحَادِيثُ مُطَوَّلَةٌ صَحِيحَةٌ فِيهَا زِيَادَاتٌ كَثِيرَةٌ اعْتَمَدَهَا النَّاسُ، وَلَا يَسَعُهُمْ إِلَّا اعْتِمَادُهَا، فَإِنْ أَخَذَ هَذَا الرَّجُلُ بِهَذَا الْحَدِيثِ فَقَطْ وَتَرَكَ مَا سِوَاهُ لَزِمَهُ رَدُّ مَا ثَبَتَ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ، وَلَا يَقَعُ فِي ذَلِكَ عَاقِلٌ، مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ فِي هَذَا الْحَدِيثِ السُّؤَالَ عَنْ رَبِّهِ وَدِينِهِ، وَهُوَ ثَابِتٌ فِي غَيْرِهِ، وَأَنَّ الْمُؤْمِنَ يَقُولُ فِي الْجَوَابِ: رَبِّيَ اللَّهُ وَدِينِي الْإِسْلَامُ، وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يُسَمَّ فِيهِ الْمَلَكَانِ بِمُنْكَرٍ وَنَكِيرٍ، وَهُوَ ثَابِتٌ فِي حَدِيثِ التِّرْمِذِيِّ، وَقَدْ أَطْبَقَ أَهْلُ السُّنَّةِ عَلَى اعْتِبَارِهِ، وَلَمْ يُخَالِفْ فِيهِ إِلَّا الْمُعْتَزِلَةُ، فَقَالُوا: لَا يَجُوزُ أَنْ تُسَمَّى الْمَلَائِكَةُ بِمُنْكَرٍ وَنَكِيرٍ، وَلَمْ يَلْتَفِتْ أَهْلُ السُّنَّةِ إِلَى قَوْلِهِمُ اعْتِمَادًا عَلَى مَا جَاءَ فِي بَعْضِ طُرُقِ الْحَدِيثِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الزِّيَادَاتِ الْوَاقِعَةِ فِي أَحَادِيثِ السُّؤَالِ عَلَى كَثْرَتِهَا، فَإِنَّهَا أَكْثَرُ مِنْ سَبْعِينَ حَدِيثًا مَا مِنْ حَدِيثٍ مِنْهَا إِلَّا وَفِيهِ زِيَادَةٌ لَيْسَتْ فِي غَيْرِهِ، فَمَنْ لَمْ يَقِفْ إِلَّا عَلَى حَدِيثٍ وَاحِدٍ مِنْ سَبْعِينَ حَدِيثًا حَقُّهُ أَنْ يَسْكُتَ مَعَ السَّاكِتِينَ، وَلَا يُقْدِمَ عَلَى رَدِّ الْأَحَادِيثِ وَإِلْغَائِهَا، وَتَأْوِيلُ حَدِيثِ الْبُخَارِيِّ أَنَّهُ يُقَالُ لَهُ: نَمْ صَالِحًا.. عِنْدَ آخِرِ جَوَابٍ يُجِيبُ بِهِ فِي آخِرِ يَوْمٍ يُسْأَلُ فِيهِ، وَذَلِكَ مِنَ الْمَحْذُوفَاتِ الْمَطْوِيِّ ذِكْرُهَا فِي الْحَدِيثِ كَسَائِرِ مَا حُذِفَ مِنْهُ، وَمَا أَحْسَنَ مَا وَقَعَ لِلْحَافِظِ أَبِي عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْبَرِّ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute