للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَتَبِعَهُ النووي نَظَرًا إِلَى أَنَّ الْحَدِيثَ الضَّعِيفَ يُتَسَامَحُ بِهِ فِي فَضَائِلِ الْأَعْمَالِ.

وَثَانِيًا: أَنَّ هَذِهِ أُمُورٌ تَوْقِيفِيَّةٌ، لَا مَدْخَلَ لِلرَّأْيِ فِيهَا، وَلَمْ يَرِدِ التَّلْقِينُ إِلَّا سَاعَةَ الدَّفْنِ خَاصَّةً، وَوَرَدَ فِي سَائِرِ الْأَيَّامِ الْإِطْعَامُ، فَاتُّبِعَ الْوَارِدُ فِي ذَلِكَ. فَإِنْ قُلْتَ: هَلْ يَظْهَرُ لِاخْتِصَاصِ التَّلْقِينِ بِالْيَوْمِ الْأَوَّلِ مِنْ حِكْمَةٍ؟ قُلْتُ: ظَهَرَ لِي حِكْمَتَانِ:

الْأُولَى: أَنَّ الْمُخَاطَبَ بِذَلِكَ مَنْ حَضَرَ الدَّفْنَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الشُّفَعَاءِ، وَذَلِكَ إِنَّمَا يَكُونُ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ لَمْ يَرِدْ بِتَكْلِيفِ النَّاسِ الْمَشْيَ مَعَ الْمَيِّتِ إِلَى قَبْرِهِ إِلَّا لِدَفْنِهِ خَاصَّةً، وَلَمْ يُكَلِّفْهُمُ التَّرَدُّدَ إِلَى قَبْرِهِ بَعْدَ ذَلِكَ، فَلَمْ يُشْرَعِ التَّلْقِينُ فِي سَائِرِ الْأَيَّامِ لِمَا فِي تَكْلِيفِهِمُ التَّرَدُّدَ إِلَيْهِ طُولَ الْأُسْبُوعِ مِنَ الْمَشَقَّةِ، فَاقْتُصِرَ عَلَى سَاعَةِ الدَّفْنِ.

الثَّانِيَةُ: أَنَّ كُلَّ مُبْتَدَأٍ صَعْبٌ، وَأَوَّلُ نُزُولِهِ قَبْرَهُ سَاعَةٌ لَمْ يَتَقَدَّمْ لَهُ مِثْلُهَا قَطُّ، فَأَنِسَ بِالتَّلْقِينِ وَسُؤَالِ التَّثْبِيتِ، فَإِذَا اعْتَادَ بِالسُّؤَالِ أَوَّلَ يَوْمٍ وَأَلِفَهُ سَهُلَ عَلَيْهِ بَقِيَّةَ الْأَيَّامِ، فَلَمْ يَحْتَجْ إِلَيْهِ، وَشُرِعَ الْإِطْعَامُ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ لَهُ ذُنُوبٌ يَحْتَاجُ إِلَى مَا يُكَفِّرُهَا مِنْ صَدَقَةٍ وَنَحْوِهَا، فَكَانَ فِي الصَّدَقَةِ عَنْهُ مَعُونَةً لَهُ عَلَى تَخْفِيفِ الذُّنُوبِ؛ لِيُخَفَّفَ عَنْهُ هَوْلُ السُّؤَالِ، وَصُعُوبَةُ خِطَابِ الْمَلَكَيْنِ، وَإِغْلَاظِهِمَا وَانْتِهَارِهِمَا.

الْوَجْهُ الثَّالِثَ عَشَرَ: لَمْ يَرِدْ تَصْرِيحٌ بِبَيَانِ الْوَقْتِ الَّذِي يَجِيءُ فِيهِ الْمَلَكَانِ فِي سَائِرِ الْأَيَّامِ، وَإِنَّمَا وَرَدَ أَنَّهُمَا يَأْتِيَانِهِ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ إِذَا انْصَرَفَ النَّاسُ مِنْ دَفْنِهِ.

وَقَدْ يُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ: يُفْتَنُ الْمُؤْمِنُ سَبْعًا وَالْكَافِرُ أَرْبَعِينَ صَبَاحًا - أَنَّهُمَا يَأْتِيَانِ فِي سَائِرِ الْأَيَّامِ أَوَّلَ النَّهَارِ، وَقَدْ يَكُونُ أَرَادَ بِقَوْلِهِ: " أَرْبَعِينَ صَبَاحًا " أَرْبَعِينَ يَوْمًا كَمَا جَرَتْ عَادَتُهُمْ بِذَلِكَ أَنْ يُكَنُّوا عَنِ الْيَوْمِ بِالصَّبَاحِ إِطْلَاقًا لِلْجُزْءِ وَإِرَادَةً لِلْكُلِّ، فَلَا يَكُونُ فِيهِ دَلَالَةً عَلَى مَجِيئِهِمَا أَوَّلَ النَّهَارِ.

وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَأْتِيَا فِي سَائِرِ الْأَيَّامِ فِي مِثْلِ السَّاعَةِ الَّتِي جَاءَ فِيهَا أَوَّلَ يَوْمٍ دُفِنَ، وَالْعِلْمُ فِي ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. وَإِذَا كُنَّا لَمْ نَعْلَمْ وَقْتَ مَجِيئِهِمَا مِنَ النَّهَارِ لِكَوْنِ ذَلِكَ مِنَ الْمُغَيَّبَاتِ الَّتِي لَا اطِّلَاعَ لِأَحَدٍ عَلَيْهَا إِلَّا بِتَوْقِيفٍ مِنْ صَاحِبِ الْوَحْيِ، وَلَا طَرِيقَ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ عَلَيْهَا بِالنَّظَرِ، فَكَيْفَ يُظَنُّ أَنَّ أَخْبَارَ طَاوُسٍ وَغَيْرِهِ بِوُقُوعِ الْفِتْنَةِ سَبْعَةَ أَيَّامٍ صَدَرَ عَنْهُمْ مِنْ غَيْرِ تَوْقِيفٍ أَوْ سَمَاعٍ أَوْ بَلَاغٍ مِمَّنْ فَوْقَهُمْ عَمَّنْ يَأْتِيهِ الْوَحْيُ؟ حَاشَا وَكَلَّا، لَا يَظُنُّ ذَلِكَ مَنْ لَهُ أَدْنَى تَمْيِيزٍ.

الْوَجْهُ الرَّابِعَ عَشَرَ: وَرَدَ فِي أَحَادِيثِ السُّؤَالِ الْمُطْلَقَةِ أَنَّ الْمَلَكَيْنِ يُعِيدَانِ عَلَيْهِ السُّؤَالَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فِي الْمَجْلِسِ كَمَا تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَى ذَلِكَ، وَلَمْ يَرِدْ فِي حَدِيثِ الْأَيَّامِ السَّبْعَةِ تَصْرِيحٌ بِمِثْلِ ذَلِكَ، فَيَحْتَمِلُ جَرَيَانُ ذَلِكَ كُلَّ يَوْمٍ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْأَحَادِيثَ الْمُتَعَدِّدَةَ

<<  <  ج: ص:  >  >>