للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا إِلَّا أَرْبَعَةً بَيَانٌ لِأَقَلِّ عَدَدٍ تُجْزِئُ بِهِ الْجُمُعَةُ أَنَّ ذَلِكَ شَأْنُ (أَنْ) وَ (لَوْ) الْوَصْلِيَّتَيْنِ كَمَا تَقَرَّرَ فِي الْعَرَبِيَّةِ أَنَّهُمَا يُذْكَرُ بَعْدَهُمَا مُنْتَهَى الْأَحْوَالِ وَأَنْدَرُهَا، تَقُولُ: أَحْسِنْ إِلَى زَيْدٍ وَإِنْ أَسَاءَ، وَأَعْطِ السَّائِلَ وَلَوْ جَاءَ عَلَى فَرَسٍ، فَهَاتَانِ الْحَالَتَانِ مُنْتَهَى غَايَةِ الْمُحْسَنِ إِلَيْهِ وَالْمُعْطَى، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} [النساء: ١٣٥] فَلَيْسَ بَعْدَ مَرْتَبَةِ النَّفْسِ وَالْوَالِدِيَّةِ وَالْأَقْرَبِيَّةِ مَرْتَبَةٌ تُذْكَرُ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( «وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا إِلَّا أَرْبَعَةً» ) بَيَانٌ لِمُنْتَهَى مَرَاتِبِ الْعَدَدِ الْمُجْزِئِ، وَلَوْ كَانَ أَقَلُّ مِنْهُ مُجْزِئًا لَذَكَرَهُ، وَيُرْشِدُ إِلَى ذَلِكَ التَّعْبِيرُ بِالْغَايَةِ فِي قَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ، حَتَّى ذَكَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثَةً، فَإِنَّ هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَنَزَّلَ إِلَى مَرَاتِبِ الْأَعْدَادِ حَتَّى انْتَهَتْ غَايَتُهُ إِلَى ذِكْرِ الثَّلَاثَةِ، فَإِنْ قُلْتَ: فَعَلَى هَذَا يُشْتَرَطُ ثَلَاثَةٌ لَا أَرْبَعَةٌ.

قُلْتُ: الْمُرَادُ ثَلَاثَةٌ غَيْرُ الْإِمَامِ ; لِقَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: ( «وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا إِلَّا ثَلَاثَةً رَابِعُهُمْ إِمَامُهُمْ» ) فَإِنْ قُلْتَ: مُسَلَّمٌ دَلَالَةُ الْحَدِيثِ عَلَى مَا ذَكَرْتَ غَيْرَ أَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ ثُبُوتَ الْأَحَادِيثِ الْمُحْتَجِّ بِهَا فَإِنَّهُ ضَعِيفٌ مِنْ جَمِيعِ طُرُقِهِ، وَإِنَّمَا يُحْتَجُّ بِمَا بَلَغَ مَرْتَبَةَ الصِّحَّةِ أَوِ الْحُسْنِ، قُلْتُ: كَذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِالْأَرْبَعِينَ حَدِيثُهُ ضَعِيفٌ لَيْسَ لَهُ طَرِيقٌ صَحِيحٌ وَلَا حَسَنٌ، قَالَ النووي فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ: احْتَجَّ أَصْحَابُنَا لِاشْتِرَاطِ الْأَرْبَعِينَ بِمَا أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ «عَنْ جابر قَالَ: مَضَتِ السُّنَّةُ أَنَّ فِي كُلِّ ثَلَاثَةٍ إِمَامًا، وَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ فَمَا فَوْقَ ذَلِكَ جُمُعَةٌ وَفِطْرٌ وَأَضْحَى» ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ جَمَاعَةٌ، قَالَ: لَكِنَّهُ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ ضَعَّفَهُ الْحُفَّاظُ، وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ هُوَ حَدِيثٌ لَا يَصِحُّ الِاحْتِجَاجُ بِهِ، قَالَ النووي: وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِأَحَادِيثَ بِمَعْنَاهُ لَكِنَّهَا ضَعِيفَةٌ، قَالَ: وَأَقْرَبُ مَا يُحْتَجُّ بِهِ مَا احْتَجَّ بِهِ الْبَيْهَقِيُّ وَالْأَصْحَابُ «عَنْ عبد الرحمن بن كعب بن مالك عَنْ أَبِيهِ قَالَ: (أَوَّلُ مَنْ جَمَّعَ بِنَا فِي الْمَدِينَةِ سعد بن زرارة قَبْلَ مَقْدَمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ فِي نَقِيعِ الْخَضَمَاتِ، قُلْتُ: كَمْ كُنْتُمْ؟ قَالَ: أَرْبَعِينَ رَجُلًا) » حَدِيثٌ حَسَنٌ رَوَاهُ أبو داود، وَالْبَيْهَقِيُّ، وَغَيْرُهُمَا بِأَسَانِيدَ صَحِيحَةٍ.

قَالَ الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ: وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ، قَالَ أَصْحَابُنَا: وَجْهُ الدَّلَالَةِ أَنْ يُقَالَ: أَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى اشْتِرَاطِ الْعَدَدِ، وَالْأَصْلُ الظُّهْرُ، فَلَا تَصِحُّ الْجُمُعَةُ إِلَّا بِعَدَدٍ ثَبَتَ فِيهِ التَّوْقِيفُ، وَقَدْ ثَبَتَ جَوَازُهَا بِأَرْبَعِينَ فَلَا يَجُوزُ بِأَقَلَّ مِنْهُ إِلَّا بِدَلِيلٍ صَرِيحٍ، وَثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ( «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي» ) وَلَمْ تَثْبُتْ صَلَاتُهُ لَهَا بِأَقَلَّ مِنْ أَرْبَعِينَ انْتَهَى، وَأَقُولُ: لَا دَلَالَةَ فِي حَدِيثِ كعب عَلَى اشْتِرَاطِ الْأَرْبَعِينَ، لِأَنَّ هَذِهِ وَاقِعَةُ عَيْنٍ، وَذَلِكَ أَنَّ الْجُمُعَةَ فُرِضَتْ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ بِمَكَّةَ

<<  <  ج: ص:  >  >>