للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَفَصَّلَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ فَقَالَ: رُؤْيَةُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِصِفَتِهِ الْمَعْلُومَةِ إِدْرَاكٌ عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَرُؤْيَتُهُ عَلَى غَيْرِ صِفَتِهِ إِدْرَاكٌ لِلْمِثَالِ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ، وَلَا يَمْتَنِعُ رُؤْيَةُ ذَاتِهِ الشَّرِيفَةِ بِجَسَدِهِ وَرُوحِهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَسَائِرَ الْأَنْبِيَاءِ أَحْيَاءٌ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ أَرْوَاحُهُمْ بَعْدَ مَا قُبِضُوا وَأُذِنَ لَهُمْ بِالْخُرُوجِ مِنْ قُبُورِهِمْ وَالتَّصَرُّفِ فِي الْمَلَكُوتِ الْعُلْوِيِّ وَالسُّفْلِيِّ، وَقَدْ أَلَّفَ الْبَيْهَقِيُّ جُزْءًا فِي حَيَاةِ الْأَنْبِيَاءِ، وَقَالَ فِي دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ: الْأَنْبِيَاءُ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ كَالشُّهَدَاءِ؛ وَقَالَ فِي كِتَابِ الِاعْتِقَادِ: الْأَنْبِيَاءُ بَعْدَ مَا قُبَضُوا رُدَّتْ إِلَيْهِمْ أَرْوَاحُهُمْ فَهُمْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ كَالشُّهَدَاءِ، وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ عَبْدُ الْقَاهِرِ بْنُ طَاهِرٍ الْبَغْدَادِيُّ: قَالَ الْمُتَكَلِّمُونَ الْمُحَقِّقُونَ مِنْ أَصْحَابِنَا أَنَّ نَبِيَّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَيٌّ بَعْدَ وَفَاتِهِ وَأَنَّهُ يُبَشَّرُ بِطَاعَاتِ أُمَّتِهِ وَيَحْزَنُ بِمَعَاصِي الْعُصَاةِ مِنْهُمْ، وَأَنَّهُ تَبْلُغُهُ صَلَاةُ مَنْ يُصَلِّي عَلَيْهِ مِنْ أُمَّتِهِ، وَقَالَ: إِنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَا يَبْلُونَ وَلَا تَأْكُلُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ شَيْئًا، وَقَدْ مَاتَ مُوسَى فِي زَمَانِهِ فَأَخْبَرَ نَبِيُّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ رَآهُ فِي قَبْرِهِ مُصَلِّيًا، وَذَكَرَ فِي حَدِيثِ الْمِعْرَاجِ أَنَّهُ رَآهُ فِي السَّمَاءِ الرَّابِعَةِ وَرَأَى آدَمَ وَإِبْرَاهِيمَ، وَإِذَا صَحَّ لَنَا هَذَا الْأَصْلُ قُلْنَا: نَبِيُّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ صَارَ حَيًّا بَعْدَ وَفَاتِهِ وَهُوَ عَلَى نُبُوَّتِهِ. انْتَهَى، وَقَالَ القرطبي فِي التَّذْكِرَةِ فِي حَدِيثِ الصَّعْقَةِ نَقْلًا عَنْ شَيْخِهِ: الْمَوْتُ لَيْسَ بِعَدَمٍ مَحْضٍ، وَإِنَّمَا هُوَ انْتِقَالٌ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ الشُّهَدَاءَ بَعْدَ قَتْلِهِمْ وَمَوْتِهِمْ أَحْيَاءٌ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ مُسْتَبْشِرِينَ، وَهَذِهِ صِفَةُ الْأَحْيَاءِ فِي الدُّنْيَا، وَإِذَا كَانَ هَذَا فِي الشُّهَدَاءِ فَالْأَنْبِيَاءُ أَحَقُّ بِذَلِكَ وَأَوْلَى، وَقَدْ صَحَّ أَنَّ الْأَرْضَ لَا تَأْكُلُ أَجْسَادَ الْأَنْبِيَاءِ، وَأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اجْتَمَعَ بِالْأَنْبِيَاءِ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَفِي السَّمَاءِ وَرَأَى مُوسَى قَائِمًا يُصَلِّي فِي قَبْرِهِ، وَأَخْبَرَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ يَرُدُّ السَّلَامَ عَلَى كُلِّ مَنْ يُسَلِّمُ عَلَيْهِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَحْصُلُ مِنْ جُمْلَتِهِ الْقَطْعُ بِأَنَّ مَوْتَ الْأَنْبِيَاءِ إِنَّمَا هُوَ رَاجِعٌ إِلَى أَنْ غُيِّبُوا عَنَّا بِحَيْثُ لَا نُدْرِكُهُمْ وَإِنْ كَانُوا مَوْجُودِينَ أَحْيَاءً، وَذَلِكَ كَالْحَالِ فِي الْمَلَائِكَةِ فَإِنَّهُمْ مَوْجُودِينَ أَحْيَاءً وَلَا يَرَاهُمْ أَحَدٌ مِنْ نَوْعِنَا إِلَّا مَنْ خَصَّهُ اللَّهُ تَعَالَى بِكَرَامَتِهِ. انْتَهَى.

وَأَخْرَجَ أبو يعلى فِي مُسْنَدِهِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي كِتَابِ حَيَاةِ الْأَنْبِيَاءِ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: ( «الْأَنْبِيَاءُ أَحْيَاءٌ فِي قُبُورِهِمْ يُصَلُّونَ» ) وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: ( «إِنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَا يُتْرَكُونَ فِي قُبُورِهِمْ بَعْدَ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَلَكِنَّهُمْ يُصَلُّونَ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ تَعَالَى حَتَّى يُنْفَخَ فِي الصُّورِ» ) وَرَوَى سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ فِي الْجَامِعِ قَالَ: قَالَ شَيْخٌ لَنَا عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ قَالَ: مَا مَكَثَ نَبِيٌّ فِي قَبْرِهِ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً حَتَّى يُرْفَعَ.

قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: فَعَلَى هَذَا يَصِيرُونَ كَسَائِرِ الْأَحْيَاءِ يَكُونُونَ حَيْثُ يُنْزِلُهُمُ اللَّهُ تَعَالَى، وَرَوَى عبد الرزاق فِي مُصَنَّفِهِ عَنِ الثَّوْرِيِّ عَنْ أبي المقدام عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ قَالَ: مَا

<<  <  ج: ص:  >  >>