للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

غَدِيرُ مَاءٍ تَرَاءَى فِي أَسَافِلِهِ

خَيَالُ قَوْمٍ تَمَشَّوْا فِي نَوَاحِيهِ ... فَالرَّأْسُ يُنْظَرُ مَنْكُوسًا أَسَافِلُهُ

وَالرِّجْلُ يُنْظَرُ مَرْفُوعًا أَعَالِيهِ

فَأَعْرَبَ " الرَّأْسُ " مُبْتَدَأً، وَ " يُنْظَرُ " الْمَبْنِيُّ لِمَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ خَبَرٌ، وَالضَّمِيرُ الْمُسْتَتِرُ فِيهِ الْعَائِدُ إِلَى الرَّأْسِ مَعْمُولٌ لِ " يُنْظَرُ "، وَ " مَنْكُوسًا " حَالٌ مِنْهُ، وَأَسَافِلَ مَنْصُوبٌ عَلَى الظَّرْفِ، وَالضَّمِيرُ الْمُتَّصِلُ بِهِ عَائِدٌ إِلَى الْغَدِيرِ، وَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ: يُنْظَرُ الرَّأْسُ حَالَ كَوْنِهِ مَنْكُوسًا أَسَافِلَ الْغَدِيرِ. وَالظَّرْفُ مُتَعَلِّقٌ بِ " يُنْظَرُ "، وَكَذَا النِّصْفُ الثَّانِي، فَيَكُونُ تَقْدِيرُهُ: يُنْظَرُ الرِّجْلُ حَالَ كَوْنِهِ مَرْفُوعًا فِي أَعَالِي الْغَدِيرِ، فَيَكُونُ الشَّاعِرُ قَدْ شَبَّهَ رَأْسَ الْإِنْسَانِ بِرَأْسِ الْإِنْسَانِ، وَالرِّجْلَ بِالْأَسَافِلِ، وَالْغَدِيرَ فِي حَالِ تَمَثُّلِ الْأَشْكَالِ فِيهِ مُنْقَلِبَةً بِالزَّمَانِ فِي انْقِلَابِهِ بِأَهْلِهِ، وَمَرَاتِبَ الْعُلُوِّ وَالسُّفْلِ الْوَاقِعِ فِي الْحُسْنِ بِمُشَاهَدَةِ الْأَشْكَالِ الْمُنْتَكِسَةِ فِي الْغَدِيرِ الْمَوْهُومَةِ أَنَّهَا سُطُوحٌ، وَقِيعَانُ الْغَدِيرِ مَرَاتِبُ الدُّنْيَا وَمَنَاصِبُهَا، وَيَكُونُ سَكَّنَ يَاءَ " أَعَالِيهِ " لِلضَّرُورَةِ، فَهَلْ هَذَا الْإِعْرَابُ صَحِيحٌ مُسْتَقِيمٌ أَوْ فَاسِدٌ بَاطِلٌ؟ أَوْ لَهُ وَجْهٌ مَا فِي الْجُمْلَةِ، أَوْ مَا قَالَهُ مَنْ رَدَّ عَلَى هَذَا الْمُعْرِبِ هُوَ الصَّوَابُ، وَهُوَ أَنَّ " أَسَافِلُ " مَرْفُوعٌ عَلَى أَنَّهُ مَعْمُولٌ لِيُنْظَرُ، أَعْنِي: أَنَّهُ النَّائِبُ عَنِ الْفَاعِلِ، وَالْمُرَادُ بِهِ - أَعْنِي " الْأَسَافِلَ " - الْأَرْجُلُ، وَالضَّمِيرُ الْمُتَّصِلُ بِهِ عَائِدٌ إِلَى الرَّأْسِ، وَالْمُرَادُ بِالرَّأْسِ هُنَا الْإِنْسَانُ مِنْ بَابِ إِطْلَاقِ الْجُزْءِ وَإِرَادَةِ الْكُلِّ، وَأَنَّ هَذَا مِثْلُ قَوْلِهِمْ فُلَانٌ رَأْسُ بَنِي فُلَانٍ، وَعِنْدِي خَمْسُونَ رَأْسًا مِنَ الْإِبِلِ، وَ " مَنْكُوسًا " حَالٌ مِنَ الرَّأْسِ، فَيَكُونُ تَقْدِيرُ الْكَلَامِ: يُنْظَرُ أَسَافِلُ الْإِنْسَانِ حَالَ كَوْنِ الْإِنْسَانِ مَنْكُوسًا، فَهَلْ هَذَا الْإِعْرَابُ صَحِيحٌ؟ وَمَا اعْتَبَرَهُ مِنْ مَجَازِ الرَّأْسِ مُعْتَبَرٌ عَلَاقَتُهُ بَيِّنَةٌ، وَقَرِينَتُهُ الصَّارِفَةُ عَنِ اللَّفْظِ الْمُسْتَعْمَلِ عَمَّا وُضِعَ لَهُ فِي التَّخَاطُبِ صَالِحَةٌ أَوْ لَا؛ لِأَنَّهُ لَا اعْتِبَارَ لِكَوْنِ الْإِنْسَانِ شَرِيفًا أَوْ وَضِيعًا بِالنِّسْبَةِ إِلَى تَمَثُّلِ خَيَالِهِ فِي الْغَدِيرِ، وَإِنَّمَا الِاعْتِبَارُ فِي إِنْكَاسِ الرَّأْسِ الْمُشَبَّهَةِ بِصَاحِبِ الْفَضْلِ وَالْكَمَالِ وَالشَّرَفِ الْمُعْتَبَرِ عِنْدَ أَهْلِ النَّظَرِ وَالْعَقْلِ وَارْتِفَاعِ الرِّجْلِ الْمُشَبَّهِ بِأَرْذَالِ النَّاسِ وَسُقَّاطِهِمْ، عَلَى تَقْدِيرِ صِحَّةِ كُلِّ ذَلِكَ هَلْ يَتَمَشَّى ذَلِكَ لَهُ فِي النِّصْفِ الثَّانِي مِنَ الْبَيْتِ؟ وَهَلْ قَوْلُ الْقَائِلِ: إِنَّ إِطْلَاقَ الرَّأْسِ عَلَى الْإِنْسَانِ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَوْضِعِ - أَعْنِي حَيْثُ لَا عَلَاقَةَ وَلَا قَرِينَةَ - لَمْ يَسْتَعْمِلْهُ أَحَدٌ مِنَ الْعَرَبِ، وَلَا مِنْ غَيْرِهِمْ مِنَ الْمُوَّلَّدِينَ وَأَرْبَابِ الْبَلَاغَةِ وَالْفَصَاحَةِ مِثْلَ أَنْ يُقَالَ: رَأَيْتُ رَأْسًا - وَيُرِيدُ شَخْصًا مِنَ الْإِنْسَانِ - مِنْ غَيْرِ حُصُولِ قَرِينَةٍ تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، وَإِنَّ مِثْلَ ذَلِكَ غَيْرُ فَصِيحٍ، بَلْ غَيْرُ جَائِزٍ، وَإِنْ قِيلَ بِجَوَازِهِ فَهُوَ مُسْتَهْجَنٌ غَيْرُ مَأْلُوفٍ صَحِيحٌ؟ وَهَلْ يَكُونُ قَوْلُ الْقَائِلِ فِي جَوَازِ ذَلِكَ: صَرَّحَ الْأُصُولِيُّونَ بِعَدَمِ اشْتِرَاطِ الْوَضْعِ فِي الْمَجَازِ، سَفْسَطَةً وَهَذَيَانًا؟ .

الْجَوَابُ: الْإِعْرَابُ الْأَوَّلُ هُوَ الصَّوَابُ، الثَّانِي الَّذِي قَالَهُ الرَّادُّ خَطَأٌ بِالْكُلِّيَّةِ، لَا وَجْهَ

<<  <  ج: ص:  >  >>