للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الْمَوْضِعِ، وَأَمَّا مَعْنًى ; فَيَظْهَرُ مِمَّا أَبْطَلْنَا بِهِ وَجْهَيِ الْحَالِ الْمُحَقَّقَةِ وَالْمُقَدَّرَةِ، إِذْ لَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ زَيْدًا لَمْ يَجِئْ إِلَّا فِي حَالِ إِكْرَامِكَ لَهُ أَوْ حَالِ إِرَادَتِكَ لِإِكْرَامِهِ، وَإِنَّمَا حِينَئِذٍ الْمَقْصُودُ مَا أَسْلَفْنَاهُ، وَالْكَلَامُ فِي تَنْزِيلِ اللَّفْظِ عَلَيْهِ، فَالْإِشْكَالُ بِحَالِهِ.

وَفِي الْحَدِيثِ إِشْكَالٌ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى، وَهُوَ أَنَّهُ يُقَدِّمُ الِاسْتِثْنَاءَ الْوَاقِعُ فِيهِ جُمَلٌ، فَإِنْ أَعَدْتَهُ إِلَى الْجَمِيعِ وَبَنَيْنَا عَلَى أَنَّ الْعَامِلَ فِي الْمُسْتَثْنَى هُوَ مِنْ قِبَلِ " إِلَّا " مِنْ فِعْلٍ أَوْ مَعْنَاهُ بِوَاسِطَةِ " إِلَّا " كَمَا يَرَاهُ الْبَصْرِيُّونَ لَزِمَ اجْتِمَاعُ عَوَامِلَ عَلَى مَعْمُولٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ بَاطِلٌ عَلَى مَا تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ النَّحْوِ، وَإِنْ أَعَدْتَهُ إِلَى الْجُمْلَةِ الْأُولَى فَقَطْ لَزِمَ الْخُلْفُ فِي الْخَبَرِ، وَذَلِكَ أَنَّ التَّقْدِيرَ حِينَئِذٍ: لَا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ يَهُودِيٌّ أَوْ نَصْرَانِيٌّ إِلَّا كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ. وَكَمْ مِنْ يَهُودِيٍّ وَنَصْرَانِيٍّ يَسْمَعُ بِهِ بَعْدَ الْبَعْثَةِ وَلَا يَكُونُ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ، بِأَنْ يُسْلِمَ وَيَمُوتَ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَإِنْ جَعَلْتَهُ رَاجِعًا إِلَى مَا بَعْدَ الْجُمْلَةِ الْأُولَى فَقَطْ عَلَى مَا فِيهِ صَارَتِ الْجُمْلَةُ الْأَوْلَى لَا تُعْرَضُ فِيهَا إِلَّا الِاسْتِثْنَاءُ، فَيَلْزَمُ الْخُلْفُ أَيْضًا، إِذْ كَثِيرٌ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى يَسْمَعُ بِهِ بَعْدَ الْبَعْثَةِ - هَذَا آخِرُ السُّؤَالِ.

الْجَوَابُ: قَالَ ابن مالك فِي " التَّسْهِيلِ " فِي تَقْرِيرِ الْقَاعِدَةِ الَّتِي مِنْ أَفْرَادِهَا هَذَا الْحَدِيثُ وَيَلِيهَا أَيْ إِلَّا فِي النَّفْيِ فِعْلٌ مُضَارِعٌ بِلَا شَرْطٍ وَمَاضٍ مَسْبُوقٌ بِفِعْلٍ أَوْ مَقْرُونٌ بِقَدْ. وَقَالَ فِي شَرْحِهِ: مِثَالُ الْمُضَارِعِ مَا كَانَ زَيْدٌ إِلَّا يَفْعَلُ كَذَا، وَمَا خَرَجَ زَيْدٌ إِلَّا يَجُرُّ ثَوْبَهُ، وَمَا زَيْدٌ إِلَّا يَفْعَلُ كَذَا، وَمِثَالُ الْمَاضِي مَسْبُوقًا بِفِعْلٍ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا} [يس: ٣٠] وَمَقْرُونًا بِقَدْ قَوْلُ الشَّاعِرِ:

مَا الْمَجْدُ إِلَّا قَدْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ ... تَنْدَى وَحُلْمٌ لَا يَزَالُ مُؤَثَّلًا

قَالَ: وَإِنَّمَا أَغْنَى اقْتِرَانُ الْمَاضِي بِقَدْ عَنْ تَقَدُّمِ فِعْلٍ ; لِأَنَّ " قَدْ " تُقَرِّبُهُ مِنَ الْحَالِ، فَيَكُونُ بِذَلِكَ شَبِيهًا بِالْمُضَارِعِ، وَإِنَّمَا كَانَ الْمُضَارِعُ مُسْتَغْنِيًا عَنْ شَرْطٍ ; لِأَنَّهُ شَبِيهٌ بِالِاسْمِ، وَإِنَّمَا سَاغَ بِتَقْدِيمِ الْفِعْلِ مَقْرُونًا بِالنَّفْيِ لِجَعْلِ الْكَلَامِ بِمَعْنَى: كُلَّمَا كَانَ كَذَا. فَكَانَ فِيهِ فِعْلَانِ كَمَا كَانَ مَعَ كُلَّمَا، فَلَوْ قُلْتَ: مَا زَيْدٌ إِلَّا قَائِمٌ -لَمْ يَجُزْ ; لِأَنَّهُ لَيْسَ مِمَّا ذُكِرَ، وَعِلَّةُ ذَلِكَ أَنَّ الْمُسْتَثْنَى لَا يَكُونُ إِلَّا اسْمًا أَوْ مُؤَوَّلًا بِاسْمٍ، وَالْمَاضِي الْمُجَرَّدُ مِنْ " قَدْ " بَعِيدٌ مِنْ شِبْهِ الِاسْمِ، وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: أَنْشُدُكَ بِاللَّهِ أَلَّا فَعَلْتَ، فَإِنَّهُ فِي مَعْنَى النَّفْيِ، كَقَوْلِهِمْ: شَرًّا أَهَرَّ ذَا نَابٍ، أَيْ مَا أَسْأَلُكَ إِلَّا فِعْلَكَ انْتَهَى. وَقَالَ أبو البقاء فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا} [يس: ٣٠]

<<  <  ج: ص:  >  >>