للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

إِنَّ الْجُمْلَةَ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ الْمَفْعُولِ فِي " يَأْتِهِمْ " وَهِيَ حَالٌ مُقَدَّرَةٌ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ صِفَةً لِرَسُولٍ عَلَى اللَّفْظِ أَوِ الْمَوْضِعِ، انْتَهَى.

فَعُلِمَ مِنْ ذَلِكَ تَخْرِيجُ الْحَدِيثِ عَلَى الْوَجْهَيْنِ، وَالْأَرْجَحُ الْحَالِيَّةُ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ وُقُوعَ مَا بَعْدَ " إِلَّا " وَصْفًا لِمَا قَبْلَهَا رَأْيٌ ضَعِيفٌ فِي الْعَرَبِيَّةِ، بَلْ قَالَ ابن مالك: إِنَّهُ لَا يُعْرَفُ لِبَصْرِيٍّ وَلَا لِكُوفِيٍّ، وَإِنَّ الزَّمَخْشَرِيَّ تَفَرَّدَ بِذَلِكَ، وَإِنَّ مَا أَوْهَمَ خِلَافَ ذَلِكَ فَمُؤَوَّلٌ عَلَى الْحَالِ. وَكَأَنَّ أَبَا الْبَقَاءِ تَابَعَ فِي ذَلِكَ الزَّمَخْشَرِيَّ.

الثَّانِي: أَنَّ الْحَالِيَّةَ تَطَّرِدُ فِي جَمِيعِ الْأَمْثِلَةِ، وَالْوَصْفِيَّةَ لَا تَطَّرِدُ بَلْ تَخْتَصُّ بِمَا إِذَا كَانَ الِاسْمُ السَّابِقُ نَكِرَةً كَالْحَدِيثِ، أَمَّا نَحْوُ: مَا جَاءَنِي زَيْدٌ إِلَّا أَكْرَمْتُهُ فَلَا يُمْكِنُ فِيهِ الْوَصْفِيَّةُ كَمَا لَا يَخْفَى، فَعُلِمَ بِذَلِكَ تَرْجِيحُ الْحَالِيَّةِ، وَكَأَنَّهَا مُقَدَّرَةٌ كَمَا صَرَّحَ بِهِ أبو البقاء، وَمَا أَوْرَدَ عَلَى ذَلِكَ مِنْ عَدَمِ الْمُلَازَمَةِ وَجَوَازِ تَخَلُّفِ مُتَعَلِّقِ الْإِرَادَةِ الْحَادِثَةِ عَنْهَا، فَهُوَ وَإِنْ كَانَ كَلَامًا صَحِيحًا فِي نَفْسِهِ إِلَّا أَنَّهُ لَا يَقْدَحُ فِي التَّخْرِيجِ، وَلَوْ رُوعِيَ هَذَا الْمَعْنَى لَمْ يَكُنْ يَصِحُّ لَنَا حَالٌ مُقَدَّرَةٌ، وَكَمْ مِنْ قَاعِدَةٍ نَحْوِيَّةٍ قُدِّرَتْ وَلَمْ يُبَالِ بِمُخَالَفَتِهَا لِلْقَوَاعِدِ الْعَقْلِيَّةِ، فَإِنَّ مِنَ النَّحْوِ وَالْفِقْهِ مَعْقُولٌ مِنْ مَنْقُولٍ كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ ابْنُ جِنِّيٍّ، فَتَارَةً يُلَاحَظُ فِيهَا الْأَمْرُ الْعَقْلِيُّ، وَتَارَةً يُلَاحَظُ الْأَمْرُ النَّقْلِيُّ، عَلَى أَنَّ مَا ذَكَرَ مِنَ التَّرْتِيبِ وَمَا أَوْرَدَ عَلَيْهِ مِنْ عَدَمِ الْمُلَازَمَةِ، إِنَّمَا يَتَّجِهُ لَوْ كَانَ التَّرْتِيبُ الْمَذْكُورُ عَقْلِيًّا لَا يَتَخَلَّفُ، وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، فَإِنَّ التَّرْتِيبَ الَّذِي فِي الْحَدِيثِ شَرْعِيٌّ لَا عَقْلِيٌّ، وَالَّذِي فِي الْأَمْثِلَةِ أَيْضًا لَيْسَ بِعَقْلِيٍّ، بَلْ عَادِيٌّ خَاصٌّ، أَيْ بِحَسَبِ عَادَةِ الْمُتَكَلِّمِ، أَوْ مَنْ تَعَلَّقَ بِهِ فِعْلُهُ، وَمِثْلُ ذَلِكَ يُكْتَفَى بِهِ فِي الْحَالِ الْمُقَدَّرَةِ.

وَأَمْرٌ آخَرُ: وَهُوَ أَنَّ مَا ذُكِرَ فِي وَجْهِ التَّرْتِيبِ تَفْسِيرُ مَعْنًى، وَمَا ذُكِرَ فِي تَقْرِيرِ الْحَالِ تَفْسِيرُ إِعْرَابٍ، وَهُمْ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ تَفْسِيرِ الْمَعْنَى وَتَفْسِيرِ الْإِعْرَابِ، وَلَا يَلْتَزِمُونَ تَوَافُقَهُمَا كَمَا وَقَعَ ذَلِكَ كَثِيرًا لِسِيبَوَيْهِ وَالزَّمَخْشَرِيِّ وَغَيْرِهِمَا. وَأَمَّا الْإِشْكَالُ الثَّانِي فَفِي غَايَةِ السُّقُوطِ ; لِأَنَّ الْجُمَلَ السَّابِقَةَ لَيْسَتْ مُسْتَقِلَّةً، بَلْ جُمْلَةُ: " ثُمَّ يَمُوتُ وَلَا يُؤْمِنُ " مُرْتَبِطَةٌ بِالْجُمْلَةِ الْأُولَى عَلَى أَنَّهَا قَيْدٌ فِيهَا، وَ " ثُمَّ " هُنَا وَاقِعَةٌ مَوْقِعَ الْفَاءِ، فَإِنَّهَا لِمُجَرَّدِ الرَّبْطِ لَا لِلتَّرَاخِي كَمَا فِي قَوْلِهِ: جَرَى فِي الْأَنَابِيبِ ثُمَّ اضْطَرَبَ. وَفِي بَعْضِ طُرُقِ الْحَدِيثِ: لَا يَسْمَعُ بِي مِنْ يَهُودِيٍّ وَلَا نَصْرَانِيٍّ فَلَمْ يُؤْمِنْ بِي إِلَّا كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ. فَعُلِمَ أَنَّ جُمْلَةَ " يُؤْمِنُ " مُرْتَبِطَةٌ بِالْأُولَى، وَفَاءُ الرَّبْطِ تُصَيِّرُ الْجُمْلَتَيْنِ فِي حُكْمِ جُمْلَةٍ وَاحِدَةٍ كَمَا قَرَّرَهُ النُّحَاةُ فِي بَابِ الْعَطْفِ فِي مَسْأَلَةِ: الَّذِي يَطِيرُ فَيَغْضَبُ زَيْدٌ الذُّبَابُ، فَقَوْلُهُ: إِنْ أَعَدْتَهُ إِلَى الْجُمْلَةِ الْأُولَى

<<  <  ج: ص:  >  >>