ورحل من مصر إلى مكة فحج ولقي بها: أبا أحمد الحسن بن علي النيسابوري، وأبا يعقوب يوسف بن إبراهيم الجرجاني، ثم انصرف إلى القيروان فسمع علي أبي محمد ابن أبي زيد جملة من تواليفه وأجاز له سائرها. وأجاز له أبو بكر الأبهري ولم يلقه. وقدم قرطبة سنة إحدى وسبعين وثلاث مائة بعلم كثير، وأقبل على الزهد والانقباض، وإقراء القرآن وتعليمه، ونشر العلم وثبته. وكان عالما عاملا وفقيها حافظا متيقظا دينا، ورعا، فاضلا، متصاونا، متقشفا، متقللا من الدنيا. راضيا منها باليسير، قليل ذات اليد، يواسي على ذلك من انتابه من أهل الحاجة، دؤبا على العلم، كثير الصلاة والصوم، متهجدا بالقرآن، عالما بتفسيره وأحكامه وحلاله، وحرامه. بصيرا بالحديث، حافظا للرأي، عارفا بعقد الشروط وعللها. وله فيها كتابٌ مختصرٌ حسن، وجمع أيضا في تفسير الموطأ كتابا حسنا مفيدا ضمنه ما نقله يحيى بن يحيى في موطأه ويحيى بن بكير أيضا في موطأه، واختصر تفسير ابن سلام في القرآن، وكان له بصر بالأعراب واللغة، والآداب.
وكان حسن الأخلاق جميل اللقاء، مقبلاً على ما يعنيه ويقر به من خالقه تعالى.
قال الحسن بن محمد: ولما ولي علي بن حمود الخلافة بقرطبة أشار عليه قاضيه أبو المطرف بن بشر بتقديم القنازعي إلى الشورى وقدر أنه لا يجرء على رد ابن حمود لهيبته حرصا منه على نفع المسلمين به، فعمل ابن حمود برأيه وأنفذ إليه بذلك كتابا من عنده صرف به رسوله على عقبه وانتهره، ولم يفكر في ابن حمود وسطوته وقال له: غر السلطان اعزه الله مني وأعطى العشوة من عملي. أنا إلى وقتي هذا ما أقوم بمعرفة ما يجب علي فضلاً عن أن أستفتي في غيري. وأنشد متمثلا:
وإن بقومٍ سودوك لفاقة ... إلى سيدٍ لو يظفرون بسيد
فأعرض عنه ابن حمود وأوجب عذره.
وقال أبو عبد الله بن عتاب: أبو المطرف القنازعي منسوبٌ إلى صنعته خير